الانتخابات ومُستقبل أميركا
تُعرَفُ المجتمعاتُ من اختياراتها، وتدلّ طبيعة المشاركة السياسية، ونتائج الاستحقاقات الانتخابية، على مدى النضج السياسي للشعوب وتوجّهاتها العامّة. وفي الولايات المتّحدة، جسّد فوز دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة 2016 نزوعاً في المجتمع الأميركي إلى اليمين. وقد كان لنمط ترامب المُتطرّف، في مواقفه وأسلوبه الشعبوي، صداه الواسع والعميق لدى قطاعات وشرائح متنوّعة من الأميركيين. وبينما فوجئت الأوساط السياسية والقطاعات الاجتماعية المحافظة، سواء من الديمقراطيين أو الجمهوريين، بأداء ترامب رئيساً للولايات المتّحدة. كان ذلك الأداء يُغذّي الأفكار اليمينية والانعزالية عند شرائح مجتمعية أخرى، وهي التي طفت فجأةً في السطح خلال عملية اقتحام الكونغرس (يناير/ كانون الثاني 2021)، والتي كشفت عمق تلك الأفكار وتغلغلها، بل تجسّدها في مجموعات وجماعات مُنظّمة، كانت تتشكّل وتتنامى طوال السنوات الماضية وهي غير ظاهرة.
مقابل صعود اليمين والشعبوية، وأسلوب فرض التوجّهات بالقوّة، ينحسر بشكل ملحوظ ومُتسارع تمسّك الأميركيين بالديمقراطية، وقيم الحوار والتسامح، وغيرها من مفردات المنظومة القيمية الغربية التي كانت قد وصلت إلى قمّتها وأوج ازدهارها في الحالة الأميركية. كما أنّ النسيج الاجتماعي الأميركي أصيب بقدر من الاهتراء والتفسّخ، ليس في مستوى العلاقة بين وحداته فقط، لكن حتّى في المستوى الفردي، فلم يصبح المواطن الأميركي هو ذلك الشخص المُنفتِح المُتفائل القادر على مواجهة التحدّيات وتجاوزها، وتحقيق أهدافه مهما كانت الصعوبات، وهو ما انعكس في إفرازات ذلك المجتمع النُّخبَويّة، ساسة وإعلاميين ورياضيين، وغيرهم من أصحاب المهن العامّة والمواهب، التي تمثّل رموز المجتمع وقدوته. ومن السهولة رصد منحنى هابطٍ في عمق الشخصيات العامة الأميركية وثقلها في مدى العقود الأربعة الماضية، فبعد وزير الخارجية الأشهر أميركياً وعالمياً هنري كيسنجر، تلاه سايروس فانس وجيمس بيكر، ثم جاءت مادلين أولبرايت، ثمّ كولن بأول وهيلاري كلينتون وجون كيري، ثمّ أنتوني بلينكن. ويتّضح الانحدار بصورة أوضح في البيت الأبيض، فمنذ انتهاء رئاسة رونالد ريغان مطلع الثمانينيّات أعقبه جورج بوش (الأب) وبيل كلينتون، ثمّ بوش (الابن) وبعده باراك أوباما، ثمّ ترامب، وأخيراً بايدن. ولا يقتصر الأمر على الساسة، فالأبطال الرياضيون الأميركيون باتوا معدودين، وتقريباً في لعبة واحدة هي السباحة. أمّا الريادة الأميركية في السينما ودراما الخيال العلمي والحركة، فليست أفضل حالاً.
ما تشهده حملة انتخابات الرئاسة الأميركية الجارية دليل عملي على ذاك التراجع الأميركي في المجالات شتّى، فبعد ما فعله ترامب، والصدمة التي أحدثها أميركياً وعالمياً، كان مُتوقّعاً أن يخلفه في البيت الأبيض رئيسٌ ديمقراطيٌّ يعيد إلى أميركا هيبتها ورصانتها، وكذلك ديمقراطيتها. بيد أنّ جو بايدن لم يكتفِ بالعجز عن ذلك، بل أكّد الضعف والانحدار الأميركي. ولم تكن شيخوخته وزلّات لسانه وضعف ذاكرته سوى عيّناتٍ أو أمثلة على الضعف الأميركي عموماً.
بالطبع، ليس الأمر مُتعلّقاً بشخص بايدن تحديداً، بدليل أنّ الحزب الديمقراطي يواجه حالياً مأزقاً في اختيار مُرشّح بديل له، إذ لا شخصيات ذات ثقل أو كاريزما تصلح لخوض المعركة أمام ترامب، بمن فيهم نائبة الرئيس كامالا هاريس. وفي المقابل، لم يجد الحزب الجمهوري أفضل من ترامب لترشيحه رئيساً مرّة ثانية، رغم ما شهدته ولايته السابقة من تهوّر ورعونة زعزعتا صورة الولايات المتّحدة أمام العالم كلّه.
وسواء عاد ترامب إلى البيت الأبيض أو فاز بايدن، أو بديلٌ له ديمقراطي، لن يحلَّ هذا أو ذاك المُعضلةَ الأميركيةَ المرتبطةَ عضوياً بالمجتمع وتركيبته وتوجّهاته. ومن ثمّ، المطروح على الأميركيين للتصويت ليس مفاضلةً بين السيئ والأسوأ في ولاية رئاسية مُدّتها أربع سنوات، إذ الأميركيون أمام مأزق مصيري، ومعضلة تصحيح المسار، واستعادة تماسك مجتمع هذا البلد وحرّيته وانسجامه، الذي كان عملاقاً، بل العملاق الأكبر في العالم.