الانتقال الكبير: مصر خيار السودانيين
إن كانت لمصر مساهمة لا تنكر في الوجدان الثقافي العربي، فإن مساهمتها في الحياة الثقافية والسياسية في السودان، الذي كان فترة طويلة جزءاً منهاً، أكبر وأظهر. لم يكن في الأمر تنافس، فكان السودانيون منذ الاستقلال يتعاملون مع مصر أختاً كُبرى يتأثرون بمدارسها في الأدب، ويتابعون جديد إصداراتها الثقافية وصيحات الموضة فيها. وكثيراً ما يتشاركون معها لحظات الحزن والفرح، فيستقبلون أم كلثوم باحتفاء والرئيس جمال عبد الناصر بتقدير، ويشاركون في صدّ هجمات إسرائيلية في الحروب الكبرى التي خاضتها مصر، ويشعرون أنهم إنما يدافعون بهذا عن أنفسهم.
وقبل الانفجار الرقمي وتعدّد الشاشات والأطباق الفضائية، كان المسلسل العربي الذي كانت العائلات في السودان تتحلق حوله مصرياً بالضرورة، حتى إن سودانيين كثيرين لم يكتشفوا أن هناك ممثلين عرباً آخرين ومسلسلات تستحق المتابعة، إلا إبّان توتر العلاقات السياسية منتصف التسعينيات وقرار الحكومة آنذاك إيقاف استيراد منتجات مصرية كثيرة، منها الإعلامية. وحينها، بدا القرار بمثابة عقاب للمشاهدين أكثر من كونه مقاطعة لمصر. أخذ السودانيون وقتاً كثيراً حتى اعتادوا مشاهدة أنواع جديدة من الدراما بلهجات عربية مختلفة وأجواء لم يعتادوا عليها، في حين فضّل بعضهم هجر التلفزيون والمسلسلات إلى حين عدول الحكومة عن ذلك القرار.
وفي التاريخ الثقافي السوداني قصص كثيرة عن محاولة كتاب وفنانين الانتقال إلى مصر، التي كان يعتبر الوصول إليها والنجاح فيها خطوة نحو الانتشار والعالمية، لا سيما مع وجود منافسة كبيرة من داخل مصر ومن عموم العالم العربي. ولم يقتصر الأمر على الجانب الثقافي، فكثيراً ما يجرى التذكير بالارتباطات المصرية للأحزاب السودانية، ويا للمفارقة، كل من جماعة الأخوان المسلمين والحزب الشيوعي ولد عبر تأثير وتأثر بحلقات تلك الأحزاب في مصر.
قبل الانفجار الرقمي وتعدّد الشاشات والأطباق الفضائية، كان المسلسل العربي الذي كانت العائلات في السودان تتحلق حوله مصرياً بالضرورة
عادت العلاقة بين مصر والسودان إلى المساءلة إبّان ما عرف بموجة النزوح الكبيرة إثر أحداث الحرب الجارية في الخرطوم. بهذه المناسبة، ربما علينا التذكير بحقيقة أن هذه "الموجة" لم تكن بذلك الحجم الذي تصوّر به، والذي دفع بعضهم إلى مقارنتها بأزمة اللاجئين العرب بداية العقد الماضي. صحيحٌ أن من تقدّم نحو الداخل المصري اختار هذه الوجهة طلباً للأمان، إلا أن أولئك كانوا في الغالب إما من المتردّدين السابقين على مصر، أو من الذين تمتلك عائلاتهم فيها شققاً أو بيوتاً، أو ممن يقصدون العبور بهدف الانتقال إلى وجهة ثالثة في ظل تداعيات إغلاق مطار الخرطوم. وقليلون من الداخلين كانوا بلا وجهة أو خطة ولا قدر كاف من المال، لذلك يعتبر السودانيون أن أي تشبيه لهم بلاجئين آخرين غير مقبول. وتظهر مواقع التواصل الاجتماعي حساسيتهم المفرطة تجاه ذلك التوصيف، مع إجماعهم، في الوقت نفسه، على شكر الدولة والمواطنين المصريين، الذين ظلوا يستقبلونهم بحفاوة، على الرغم مما تمر به بلادهم من ضوائق اقتصادية.
والحقيقة، لم تكن موجة النزوح السودانية كبيرة في أسابيع الحرب الجارية، ففي ظل استعادة الجيش سيطرته على مختلف الولايات والأقاليم، عدا منطقة وسط الخرطوم الاستراتيجية التي لا تزال ميداناً للعمليات، اقتصر النزوح على سكان ولاية الخرطوم التي اختار عدد منهم الانتقال إلى أطرافها أو إلى مناطق أخرى داخل السودان. كان الانتقال الحقيقي والكبير، ولم يلفت الانتباه كثيراً، لأنه جاء صامتاً وهادئاً، خلال العامين 2020 و2021، حينما بدأت تظهر إخفاقات الحكومة الانتقالية، التي كانت تطلق على نفسها اسم "حكومة الثورة"، وهو المسمّى الذي كان يضفي عليها قدسيةً تجعلها فوق النقد والتصويب.
اختيار مصر في هذه الظروف بالتحديد للانتقال المؤقت أو الدائم، أبلغ رد على أطروحات "الأفريقانية" و"المركزية الأفريقية" التي أرادت الانحياز للهوية الأفريقية للسودان
ظهرت في تلك الفترة تعقيدات حياتيةٌ كثيرة، فمن ناحيةٍ، تخبّط الجدول الدراسي وأغلقت المدارس والمعاهد التعليمية فترات طويلة، ما عرّض مستقبل تلاميذ المدارس وطلاب الجامعات للخطر. وظهر الفشل الصحي وسياسة إغلاق المستشفيات بسبب فيروس كورونا أو بسبب النقص الحاد في المعينات الصحية. كانت الطرق الرئيسة آنذاك مغلقةً بشكل شبه يومي بدواعي الكرنفالات الثورية المطلبية التي لم تكد تتوقف منذ سقوط نظام البشير. وكانت جرائم السلب والنهب قد بدأت تتزايد بوتيرة غير مسبوقة. وكان هذا كله يحدث في وقت ظهر فيه تحول مفاجئ وغير مدروس نحو الاقتصاد النيوليبرالي وتطبيقاته القاسية والصادمة، لينتج ارتفاعاً غير مسبوق في سعر الدولار، انخفضت معه قيمة الجنيه السوداني بشكلٍ أذاب المدّخرات وأربك الأسواق وجعل الرواتب والمداخيل، وإن طرأت فيها زيادات، عاجزةً عن توفير أبسط أساسيات العيش الكريم.
ساهم ذلك كله في ما يمكن تسميتها حركة الانتقال الكبير، التي سبقت الأزمة الحالية بوقت طويل. رأى كثيرون، بعد مقارنة الخيارات المتاحة، أن في الثقافة المشتركة والتعليم المستقرّ للأبناء، برسومه التي في متناول اليد، والرعاية الصحية المتوفّرة والأمن العام وحسن تعامل المصريين مع الجالية السودانية أسباباً كافية لترجيح الخيار المصري على غيره من المهاجر. بل ذهب مقتدرون إلى بيع أصولهم في السودان والاستفادة من ذلك في شراء أكثر من شقة في مصر، ما وفّر لهم معيشة ودخلاً إضافياً. ما حدث أخيراً، وبرغم ضجّة الأحداث الاستثنائية، لم يتعدّ تقديم حافز إضافي أنهى تردد بعض المتردّدين في اتخاذ هذه الخطوة.
يمكن أن نرى في اختيار مصر في هذه الظروف بالتحديد للانتقال المؤقت أو الدائم، وفي وقت تشهد فيه العلاقات بين البلدين تخريباً مقصوداً، على يد أطراف لم تستطع أن تستوعب حساسية هذه العلاقة وتاريخيتها، أبلغ رد على أطروحات "الأفريقانية" و"المركزية الأفريقية" التي أرادت الانحياز للهوية الأفريقية للسودان، على حساب إلغاء ارتباطاته العربية.