الانقلاب الإسرائيلي
للشأن الإسرائيلي خبراؤه، وهم كثر، ولديهم وسواهم ما يقولونه في الحدث الإسرائيلي الحالي، أو قل انفجار الهوية وتبعاته في الشارع وفي صفوف النخب. لكن الحدث الذي أنتج انقساماتٍ عموديةً وأفقية غير مسبوقة في صفوف النخب والشارع هناك ليس إسرائيلياً وحسب، بل شرق أوسطي، فتبعاته لا تقتصر على رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وحزب الليكود، بل تشمل أيضا الفلسطينيين أولاً، والجوار العربي تالياً وإنْ بدرجة أقل.
إنه انفجار أزمةٍ تتعلق بهوية الدولة في إسرائيل ودورها، وربما حدود سيطرتها ومجالها الحيوي (خريطة سموتريتش التي تضم فلسطين والأردن)، ما يعني أن هناك إسرائيل جديدة تتشكل أمامنا، سواء استمر الانقسام في صفوف نخبها أو كُبِح بتسوياتٍ مؤقتةٍ أو بضغوط أميركية. لكن ردود الفعل العربية اكتفت بدور المتفرّج، وهذا لا يفاجئ أحداً رغم أن الخاسر الأكبر سيكون العرب بشكلٍ أو آخر.
تراوحت ردود فعل النخب العربية ما بين الشماتة (اللهم اجعل بأسَهم بينهم شديداً) أو النبوءات القيامية الكبرى (دمار إسرائيل من داخلها)، إضافة إلى المقارنات المتعسّفة بين ما يحدث في "منطقتنا العربية" وإسرائيل لصالح الأخيرة، فثمّة من لخص مظاهرات تل أبيب بكلمتين فقط "الربيع الإسرائيلي"، وهناك من قارن بين ردّة فعل حاكمه العربي على الثورة في بلده، إذ عاجل شعبه بالبراميل المتفجّرة والقتل بكل وسيلة توفرت لديه، ورد فعل حكومة نتنياهو على مظاهرات تل أبيب وحيفا وسواهما. على أن مقارناتٍ كهذه، وبعضها صحيح، مثل أن الجيش هناك هو الذي تصدّى للنزعة الديكتاتورية المُضمرة لدى نتنياهو، بينما هو في الحالة العربية من يقمع ويأتي بالطغاة إلى سدّة الحكم، وكذا في ما يتعلق بحيوية المجتمع الإسرائيلي الذي يقاوم تحوّله قسراً إلى شرق أوسطي لا أوروبي في المنطقة، هذه المقارنات، وإنْ صحت وجاءت في معرض مديح العدو لهجاء الحاكم، تغفل ديناميات الحدث نفسه الذي لم يُكمل دورته بعد، والضغوط الغربية الشديدة لإنقاذ إسرائيل من نفسها والحفاظ على طبيعتها الأولى، دولة معاصرة وديمقراطية في محيطٍ من التسلّط والتخلف العربييْن، فبن غفير وسموتريتش جاءا بانتخاباتٍ حرّة ونزيهة، واليمين الديني يتقدّم بخطوات ثابتة في المجتمع الإسرائيلي منذ الانسحاب من لبنان عام 2000، وانهيار مفاوضات كامب ديفيد وطابا. في المقابل، ينقرض اليسار، ولم يبق منه فعلياً سوى بعض الكتّاب والناشطين. بمعنى أن التغيّر الذي نراه حالياً هو نتاج عملية طويلة ومتدرّجة ذات صلة بطبيعة الدولة بصفتها قوة احتلال، وتستند إلى عقيدة توراتية وعنصرية، فأنت لا تستطيع أن تحتلّ شعباً آخر وتقوم على التمييز إزاء الأغيار داخل حدودك، وعلى الدعم الغربي الدائم (الاستثناء الإسرائيلي)، وتكون في منأى عن الشعور بالاستعلاء والتصرّف بغطرسة، ومفارقة طبيعة الأشياء والمجتمعات، ما يجعل الانفجار من الداخل حتمياً في مرحلة مقبلة.
ما حدث أخيراً هو تجميد الأزمة، لا حلّها، فتداعياته لم تنته مثلاً على الجيش، حارس الدولة وبقرتها المقدّسة، ولا على بقية القوى والأجهزة الأمنية التي تقاوم، ولا على الادّعاء العام هناك الذي يسوؤه إلحاق القضاء بالسلطتين التنفيذية والتشريعية، ولا على الراعي الأكبر، الولايات المتحدة، الذي يرفع الغطاء تدريجياً عن حكومة نتنياهو، بل يسعى، وفق بعض التقارير، إلى إسقاطها، وإنهاء ما سُمي الاستثناء الإسرائيلي في العالم، فالمطلوب دولة بدور وظيفي محدّد لا دولة شرق أوسطية أخرى لا تختلف عن جيرانها، وهو ما يفسّر الدعوات إلى سنّ دستور لها. ولا يُعرف كيف سيتلقى معسكر اليمين الإسرائيلي ذلك، خصوصا أنه في ذروة صعوده وقوته، ما يعني أن ديناميات الحدث ما زالت فعالة وستنتج انفجاراتٍ أخرى، أشد قوة وتدميراً مما شاهدناه في الأيام القليلة الماضية.
هل تتابع القيادة الفلسطينية أحداث الجوار الإسرائيلي، وتبحث سبل استثماره ولو في الحد الأدنى؟ لا أظن ذلك، فحتى التسويات البينية في إسبارطة المجاورة تتم على حساب الفلسطينيين، فتجميد إقرار التشريع الخاص بالقضاء كان مقابل منح بن غفير الضوء الأخضر لإنشاء الحرس الوطني. وهذا بمثابة مليشيات تتبع الرجل، ويستعين بها إذا رفضت الشرطة أوامره أو تلكأت، وهي كثيرًا ما فعلت ذلك. والخشية أن يكون سفك مزيد من الدم الفلسطيني، أو التوحش الاستيطاني، ما سيوحّد الإسرائيليين مجدّداً، ولو مؤقّتاً، أيها السادة في مبنى المقاطعة.