البابا فرنسيس يقوّض حلف الأقليات في المنطقة
شكّلت زيارة البابا فرنسيس إلى العراق حدثا استثنائيا في هذه الظروف الإقليمية والدولية بالذات. بلد أقل ما يقال فيه إنه غير مستقر، تتنازعه صراعات داخلية، أحيانا دموية مثل التفجيرات التي حصلت عشية الزيارة. بلد غني بتاريخه وحضارته وتنوّعه السياسي والديني والإثني والجغرافي، أثقلت كاهله التدخلات الخارجية والحروب الإقليمية والغزوات الأميركية. وعبثت بحريته وغناه الفكري والثقافي، وبنسيجه الاجتماعي أنظمة الاستبداد والبطش، العسكرية أولا ثم البعثية الإلغائية ثانيا، وأخيرا الخمينية الاستتباعية ومليشياتها التي تعمل على تقويض الدولة العراقية.
وجّهت خطوة البابا فرنسيس ضربة قاصمة لحلف الأقليات في المنطقة الذي وضعت مداميكه سلطة الملالي في إيران منذ سنوات
إنها المرة الأولى التي تطأ قدما رأس الكنيسة الكاثوليكية في العالم أرض العراق، بعد محاولة سابقة لسلفه يوحنا بولس الثاني عام 2000، تصدّى لها صدّام حسين الذي كان ما زالت تحاصره العقوبات الدولية بعد غزوه الكويت في صيف 1990. لم يأت فرنسيس إلى العراق حاملا رسالة مسيحية أو لمواساة المسيحيين فقط الذين تعرّضوا لأفظع أنواع القهر والاضطهاد إلى درجة أن عددهم لا يتجاوز اليوم 300 ألف شخص، بعد أن كانوا بحدود المليونين. جاء البابا حاملا رسالة أخوّة وسلام لجميع العراقيين، مهّد لها بزيارة إلى الأزهر في مصر في إبريل/ نيسان 2017، ثم بزيارة ثانية إلى أبوظبي في فبراير/ شباط 2019، حيث وقع على وثيقة "الأخوة الإنسانية" مع شيخ الأزهر أحمد الطيب. والثالثة إلى العراق، فكانت الثالثة ثابتة، كما يقول المثل، إذ إنها جسّدت رمزيا وفعليا الهدف والمغزى لهذه الزيارات الثلاث التي خصّ بها بابا روما العالمين، العربي والإسلامي، في فترة قصيرة وقياسية، والتي تعكس عمق اهتمامه بالإسلام رسالةً، وليس بمذاهبه. في القاهرة، التقى شيخ الأزهر السني، وفي أبوظبي وقّع معه وثيقة "الأخوة الإنسانية". وفي النجف، التقى مع المرجع الشيعي، علي السيستاني، وعبّر عن إعجابه به قائلا: "روحي امتلأت بالامتنان". وكأنه أراد من هدا اللقاء الأخير الغمز من قناة الملالي في إيران، قائلا إن النجف هي مرجعية الشيعة وليس قُم، إلا أنه، في الوقت عينه، أراد مخاطبة الإسلام والمسلمين، كل المسلمين، وليس السنة فقط أو الشيعة فقط أو التمييز بين مذهب وآخر حاملا رسالة أخوة ومساواة في المواطنة والإنسانية بين المسيحيين والمسلمين، وقد لاقاه السيستاني قائلا إن "البشر إخوة في الدين أو متساوون في الخلق". إن خطوة فرنسيس قد وجّهت ضربة قاصمة لحلف الأقليات في المنطقة الذي وضعت مداميكه سلطة الملالي في إيران منذ سنوات، بدءا من لبنان وسورية.
ما قام به البابا ليس مجرّد علاقات عامة بين الزعماء الروحيين من أجل تحسين صورة الأديان مما لحق بها من تشويه، ولما ارتكب باسمها من عنف وإرهاب، أو من أجل إصلاح ذات البين بين الأديان لما شابها من سوء فهم، وأحيانا خلافات، بعضها تاريخي وبعضها عقيدي وبعضها الآخر في التفسير، وإنما هو سعي إنساني قيمي أراد فرنسيس من خلاله تأكيد أن الإنسان، بغض النظر عن دينه، هو بحاجة إلى العلاقة مع الآخر مثل حاجته إلى الخبز والحرية؛ الأخوة بما هي مساواة بين البشر مسألة يؤكّد عليها هذا البابا منذ تبوّئه السدّة الرسولية، ويعمل على تثبيت مفهومها على الرغم من الاختلافات والتمايزات بين الشعوب والأديان، فهو أراد تسليط الضوء على قبول الآخر كما هو، وبما يختزن من موروث ثقافي واجتماعي. لذلك كان تركيزه على المصالحة ونبذ العنف في هذه البلدان، من العراق إلى سورية وإلى لبنان، البلد الذي لاحظ البابا أن المصالحة فيه لم تكتمل بعد، معلنا أنه سيكون هدف زيارته المقبلة. وفي الموازاة، وعشية وصول البابا إلى بغداد، أطلق البطريرك الماروني، بشارة الراعي، لأول مرة موقفا واضحا وحاسما تجاه حزب الله، محذّرا من "انقلاب على المؤسسات"، ومن "سلاح غير شرعي وغير لبناني" يعبث بسيادة الدولة وشرعيتها.
دعا البابا فرنسيس، في الذكرى الأولى للانتفاضة السورية عام 2012، إلى إضاءة الشموع ورفع الصلوات في الفاتيكان تضامنا مع مأساة السوريين
أما عن احتمال زيارته سورية، فقد كان لافتا قوله إنها "لم تخطر ببالي"، محاولا ربما التعبير، وإن بـ"براءة الساذج"، عن استيائه وحزنه لما يتعرض له الشعب السوري منذ عشر سنوات، ورفضه بالتالي زيارة سورية لعدم إعطاء صكّ براءة للنظام الأسدي. وقد كان لافتا أن فرنسيس، في الذكرى السنوية الأولى للانتفاضة السورية عام 2012، دعا إلى إضاءة الشموع ورفع الصلوات في الفاتيكان تضامنا مع مأساة السوريين، وتعمّد ترقية سفير الفاتيكان في دمشق، وترفيعه إلى رتبة كاردينال، لتحصينه وإبقائه في مركزه، لكي يبقى العين البصيرة والساهرة والمسجلة لفظاعات النظام، وهي سابقةٌ لم تحصل في تاريخ العلاقات الدبلوماسية. كما أنه لم يوفر من سهامه بطاركة الشرق الكاثوليك المنحازين، في معظمهم، إلى جانب الجلاد السوري، بحجّة أنه "حامي المسيحيين"، إلى درجة أن أحدهم اضطر إلى الاستقالة من منصبه.
بين عامي 1618 و1648 نشبت حرب طاحنة في أوروبا (حرب الثلاثين عاما)، ودارت رحاها بشكل أساسي على الأراضي الألمانية، وشاركت فيها معظم الدول والقوى الأوروبية التي كانت قائمة وموجودة يومها باستثناء إنكلترا. وقد اندلعت تلك الحرب نتيجة صراع ديني بين الكاثوليك والبروتستانت، ولم تبق ولم تذر. ثم تحوّلت إلى صراع سياسي من أجل السيطرة على أوروبا بين فرنسا الكاثوليكية وهابسبورغ، وتطورت لاحقا إلى حرب بين فرنسا وإسبانيا. أي بمعنى آخر ومنذ ذلك الزمن، منذ قرون، كان يتم توظيف الدين لأهداف سياسية، ومن أجل السيطرة. أليس هذا ما يحصل اليوم؟ أليس هذا ما تسعى إليه إمبراطورية الملالي الذين يشنون حروبا مذهبية في أكثر من اتجاه، محاولين استعمال الشيعة العرب وتجنيدهم ضد إخوانهم السنة، كما هو حاصل في سورية وفي اليمن وحتى في العراق، من أجل بسط نفوذهم والسيطرة على الفضاء العربي. وللمفارقة، إنها عمليا حرب تدور أيضا منذ ثلاثين عاما، منذ انتصار "المجاهدين" في أفغانستان على الاتحاد السوفييتي السابق الذي اضطر إلى سحب جيشه في بداية 1989، قابلته الفتوى التي أطلقها الخميني الذي اضطر الى تجرّع سمّ الحرب مع العراق، ضد الكاتب البريطاني من أصول هندية، سلمان رشدي، فكانت وما زالت حرب مليشيات ومرتزقة تزرع الإرهاب والقتل والدمار، وتقوّض سيادة الدول من الخليج إلى البحر المتوسط.
مهّد البابا الطريق، لكي يأتي إلى النجف حاملا رسالة سلام وتآخٍ، ومعها نظرته وقيمه للتكامل والتشارك مع المرجع الشيعي الأهم
يقبل البابا الأرجنتيني تحدّي النظام التيوقراطي الإيراني، ويأخذ على عاتقه مد يد السلام والأخوة نحو المسلمين العرب، بدءا من الأزهر، تحضيرا لتوقيع وثيقة إن الجميع إخوة، وهم متساوون أمام الله وفيما بينهم. وبالتالي المساواة في المواطنة بغض النظر عن دين الحاكم والمحكوم. وهو بذلك مهّد الطريق، لكي يأتي إلى النجف حاملا رسالة سلام وتآخٍ، ومعها نظرته وقيمه للتكامل والتشارك مع المرجع الشيعي الأهم، ليكمل دائرة الأخوة المسيحية - الإسلامية حول قيمة الإنسان المطلقة والمساواة بين المسلمين، سنة وشيعة، وإخوتهم المسيحيين، كاثوليك وأرثوذكس، بعيدا عن أي غلبة أو انتصار أو سيطرة أو هيمنة أو وصاية. لقد أدرك فرنسيس أن يدا واحدة لا تصفق، وأن العالم اليوم أصبح قرية إخوة واحدة. وعلى هذا الأساس تحرّك. وكانت هذه اللقاءات بين حاملي رسالة الديانات السماوية التي تؤسّس لمداميك الإنسانية، وتنبذ العنف والتعصّب، وتنشر الأخوة، ثم تبنّي المواطنة شرطا أساسيا من شروط قيام سيادة الدول وسلامها. إنه تحدّ يخوض غماره رجل في الخامسة والثمانين، مستعينا بآخر في التسعين يشبهه ويقيم في قلب العاصفة!