البنت التي لم تركب الترند
في صمت، ومن دون تغطية إعلامية مكثفة، وبغير شلة أو تيار أو مجموعة، تكتب الطبيبة المصرية الألمانية فجر العدلي حكاية نضال سلمي لفتاة بحثًا عن حرية الأب المعتقل فور وصوله إلى مطار القاهرة الأسبوع الماضي، لقضاء أيام إجازة عادية يحرص عليها طوال السنوات الماضية.
فور علمها باعتقال الوالد في المطار واقتياده إلى جهة غير معلومة، قرّرت الطبيبة الشابة أن تكون في القاهرة، على الرغم من أنها تعلم أن القاهرة لا تطيقها ولم تنس ثأرًا قديمًا معها يعود إلى العام 2015 حين أطلقت فجر، طالبة الطب في ذلك الوقت، صرخة ضد المقتلة العنصرية التي تدور في مصر، وهتفت في وجه عبد الفتاح السيسي الذي كان يزور برلين للمرّة الأولى محاطًا بمجموعة من الوجوه الفاشية من الفنانين والإعلاميين، حاولوا الفتك بها حين هتفت هتافها التاريخي الذي صوّرته وأذاعته وسائل الإعلام الدولية، فأحدث دويًا هائلًا سألتها عنه مجلة ديرشبيغل الألمانية، فقالت "لم يسبِق لأحدٍ في مصر أن قال له شيئًا كهذا. لا عجَب، فأي شخص يفعل ذلك يجب أن يخشى العواقبَ على الفور. وقد استطعتُ أن أفعل ذلك فقط لأننا في ألمانيا".
مضت تسع سنوات تقريبًا على ذلك الموقف من فتاةٍ لم تشتغل يومًا بالإعلام، ولم تنشغل بالسياسة، تخللتها زيارات للقاهرة مع أسرتها من دون مشكلات، حتى فوجئت الأسبوع الماضي باعتقال والدها علاء العدلي (60 عامًا) لدى وصوله إلى مطار القاهرة قادمًا من ألمانيا، حيث يعيش منذ 30 عامًا، حيث انقطع الاتصالُ به فجأة، حتى علمت الأسرة مصادفة من ألماني مصري، أنه تم اعتقاله، هو الآخر، بشكل مؤقت، رفقة والدها، بعد وصوله، وأُطلِق سراحُه لاحقًا، فيما بقي والد فجر قيد الاعتقال، حيث أُخطِرت العائلةُ رسميًا بعد مضي 48 ساعة بأن علاء العدلي موقوفٌ لدى جهاز الأمن الوطني المصري (مباحث أمن الدولة سابقًا).
حسب ما ورد في تقرير لراديو ألمانيا عن اعتقال والدها، "لم يكن قرارًا سهلًا لفَجر العدلي أن تذهب إلى مصر، لكنها قدّرت عواقب الأمور، فقد مرّت بالفعل 40 ساعة على القبض على والدها في مطار القاهرة، من دون إخطار أسرته بمكان احتجازه. وبعد مرور يومين على اختفائه هبطت الشابة الألمانية ذات الجذور المصرية في القاهرة للبحث عند والدها، حيث قالت "أعرف أن والدي لم يفعل شيئًا، وأعرف أنه غير ناشط سياسيًا".
والد فجر العدلي هو الوحيد من بين أفراد الأسرة الخمسة الذي لا يحمل الجنسية الألمانية. تقول ابنته "لستُ نادمة على نشاطي في مجال حقوق الإنسان ودعم الناس بشجاعة، ولكن على الجانب الآخر أعرف تمامًا أن ما حدث لوالدي يمكن أن تكون له علاقة وطيدة بما قلتُه في ذلك المؤتمر الصحافي".
لا يعرف أحد مكان احتجاز والدها، وغير مسموح لمحاميه بالاتصال به، ولا لأفراد أسرته، كل ما وصل إليهم أنه متهم بترويج أخبار كاذبة، والتهمة الجاهزة للتوجيه ضد أي مواطن معارض للنظام. وعند وصولها إلى مطار القاهرة، كادت فجر العدلي هي الأخرى أن تُعتقل، غير أنها صوّرت كل شيء، في صالة الوصول، قبل أن تُنقَل إلى غرفة الاستجواب بالمطار، لتخرُج بعدها في رحلة البحث عن والدها في كل الجهات والأماكن التي يمكن أن يكون محتجزًا لديها، تحمل لافتة صغيرة تقول "الحرية لعلاء العدلي" ترفعها وحيدة من دون تضامن من أية جهة أو أي فرد، وبالضرورة من دون أي تنويه من وسائل إعلام محلية.
لم تتابع العدسات والميكروفونات فجر العدلي، ولم تشتعل حقول السوشيال ميديا بالكلام عن بسالة فتاةٍ تبحث عن الحرية لوالدها المعتقل انتقامًا منها، ولم تتصدّر "الترند"، ذلك أن لركوب "الترند" اشتراطات أخرى لا تتوافر في طبيبة شابة ترتدي زيًا بسيطًا محتشمًا وتحترم حقوق الإنسان، بما هو إنسان، وليس بما هو صديق أو رفيق شلة، كما أن مفهومها لحقوق الإنسان يتسع ليشمل حقه في الحرية والعدل والاحتجاج والرفض، وليس فقط حقّه في حلاقة شعر رأسه على الزيرو وتحويل ما هو شخصي وتافه إلى قضايا كونية كبرى.