البوليساريو... مبرّرات الوجود والاستمرار
لو جرّدنا الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب (البوليساريو) من أهدافها الثلاثة، لما وجدنا لها، من الناحيتين السياسية والعسكرية، أي مبرّر كفاحي للاستمرار قرابة خمسين سنة على أرض لم "تحرّرها"، ومنطقة لم تُبن في خلاء صحرائها أية دولة، وفي صراع متواصل ضد "الاحتلال" الذي تدّعيه على المغرب لم تعد فصوله تقنع مناصريها بجدوى النضال التحريري المُدَّعى.
أول تلك الأهداف، عليه تقوم اختياراتها منذ تأسيسها في 20 مايو/ أيار عام 1973، مبدأ تقرير المصير الذي بني، في بداية الأمر، على "مسلّمة" متداولة كان لها شأن في الكفاح التحريري. ومبرّر ذلك بالنسبة للصحراء أن الاستعمار الإسباني كان قد احتل المنطقة منذ أوائل القرن التاسع عشر، وأصبح يتهيأ فيما بعد لبناء كيان خاص، ولم تأت سنة 1973 حتى أوجد لذلك خريطة محددة جغرافيا، وحزبا (الاتحاد الوطني الصحراوي) مرشّحا للولاية، واستخلص من معرفته الكبيرة بقبائل المنطقة وانقسامها على شرعيات مفترضة سياسةً قادته، يوم أنْ كان فرانكو ممدّدا على سرير الموت، إلى التسليم، بعد تمسّكٍ لم تنفع معه قراراتٌ ولا نداءات، بضرورة الخروج من المنطقة، وتسليمها، عبر مفاوضاتٍ، لِمَنْ كانا يطالبان بها: المغرب وموريتانيا. مع الاعتبار أن زعماء "الجبهة الشعبية..." كانوا على اتصال ومفاوضات مع الحكّام الإسبان في تلك المرحلة. وكان من الممكن أن يشكّلوا بديلاً معقولاً لانهيار الولاء التقليدي الذي محضه بَعْضٌ من شيوخهم للإسبان، لولا العَجَلَة التي تحرّك بها المغرب على ضوء "المسيرة الخضراء"، وقبول الإسبان بالمفاوضات التي تُوِّجَت باتفاقية مدريد الثلاثية في 14 نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1975.
لا يستطيع المحلّل أن يفهم بالقدر الكافي من الوضوح كيف لموقفٍ مبدئيٍّ من "تقرير المصير" لم يخضع، على امتداد 50 سنة من الممارسة، لأية مراجعة، تبعا للانزياحات الأيديولوجية التي طرأت عليه في ممارسات كثير من التجارب التحرّرية العالمية. بل يمكن القول إن الموقف من "تقرير المصير" تحوَّل إلى حالة مرضية بتحوّل المبدأ نفسه إلى "مقدّس"، خصوصا عندما أصبحت الجزائر تتغنّى به دعما للانفصال، و"البوليساريو" تقول به لِشَرْعَنَةِ "الجمهورية" المصطنعة. والمفارقة أن الحلول المقترحة لإنهاء الصراع كانت باستمرار محط مفارضاتٍ ومساوماتٍ غير مستساغة، وبعضها مُخْذِلَة، ولكن "البوليساريو" استمرّت، على نوع من العناد الغضوب، متشبثة بالموقف في العلن لإخفاء ما كانت مستعدّة لقبوله بالمساومة في السر، كالموافقة المبدئية والعملية مثلاً على الاستفتاء، رغم أنه يتضمّن الاندماج، ويتعارض مع الانفصال. وهنا أطرح السؤال: هل كان بإمكان جبهة البوليساريو أن تثبت على الموقف المبدئي لو لم تكن الدولة الجزائرية هي التي تعينه، وَتُمَوِّل متطلباته، وتنفخ في روحه في جميع المحافل الدولية، متعللة بالدفاع عن شعبٍ وجمهوريةٍ وأرض؟
العمل المسلح قد يكون هو الطريق الأنسب في الكفاح، إلا أن اعتماده أساساً في الكفاح لا يكون إلا في نطاق الممكن، بناء على معرفة وتحليل وتوفير شروط وأبْنِيَّةٍ وبشَر
ثاني تلك الأهداف هو "الكفاح المسلح ضد الاحتلال" الذي أعلنته "البوليساريو" منذ التأسيس بناء على أن الأرض التي دخل إليها المغرب (فاتحاً)، في 1975، أصبحت "محتلة" من جديد كما ترى البوليساريو من زاوية الانفصال. المهم في هذا أنَّ "البوليساريو" تبَنَّت الكفاح المسلح أسلوباً قبل المسيرة الخضراء، لأنه كان جزءاً من التصوّر التحريري الذي اعتمدته حركات سياسية في أفريقيا وفي أميركا اللاتينية، شِعَارُه أنَّ ما اغتُصِبَ بالقوة لا يُسْتَرَدّ إلا بالقوة، وأنَّ إسقاط النُّظُم العميلة، ضمن الاختيار السياسي والأيديولوجي الذي برّرته "النظرية اللينينية" في الثورة، لا يكون ممكناً إلا بالقوة المنظّمة التي يمارسها "جيش التحرير" المسلح لإنجاز مهامّه والوصول إلى أهدافه.
ومع الاعتبار أن العمل المسلح قد يكون هو الطريق الأنسب في الكفاح، حسب السياق والاختيار، لمقارعة الأعداء وَمُضَارَبَتِهم، إلا أن اعتماده أساساً في الكفاح لا يكون إلا في نطاق الممكن، بناء على معرفة وتحليل وتوفير شروط وأبْنِيَّةٍ وبشَر. وجبهة البوليساريو لم تكن مرشّحة لذلك، ويبدو أنَّ وعي المؤسّسين الأوَّل كان مشدوداً، بقوة التأثير الأيديولوجي المرحلي، إلى حرب العصابات. ولو لم تتكفل ليبيا في البداية، ثم تابعتها الجزائر في ذلك، وخصوصا في معركة أمغالا، كما هو معروف من الناحية العسكرية، لما أمكن لها أن تغامر بمعركةٍ من الحجم الكبير في وجه "القوة المغربية" المرتبطة بجيش نظامي مهيكل، له تاريخ قديم نسبيا، ويتوفّر على تسليح وتقنيات تمكّنه من خوض معارك لا تستطيع البوليساريو من دون سَنَدٍ أن تخوضها.
أذكر هنا أن جبهة البوليساريو، بسبب وساطاتٍ أممية، قَبِلَت وقف إطلاق النار في سنة 1991، وتخلت عن جميع العمليات العسكرية، الحقيقية أو التي كان يَصُوغُها إعلامُها لكل ترويج، وخصوصا بعد أن بنى المغرب، على امتداد 2500 كلم، جداراً أمنياً يصعُب الاقتراب منه أو اقتحامه، وهو ما أفشل أيضاً فكرة الكفاح العسكري المسلح، وَعَطَّل، أو جَمَّد، قدراته الممكنة، فأصبح الأمر الواقع، الذي مَنَاطُه لا سلم ولا حرب، الشاهد على أن حركة البوليساريو عجزت في أزيد من 20 سنة عن تحقيق أي اختراقٍ في استراتيجية الخصم، ولم يفلح الخصم نفسه في ثَنْي خصمه عن أي شيء. وللقارئ أن يدرك أن السنوات العشرين المذكورة هي التي تكرَّسَت فيها المفاوضات "السلمية"، وبلور فيها المغرب مقترح الحكم الذاتي (2007)، وتم القبول من الطرفين بالزيارات العائلية المتبادلة ولو لوقت. وهي السنوات العشرون أيضا التي لم يتوقف فيها المغرب عن التزوّد بالسلاح، ولم يخفّف من غلواء خطابه المعادي لـ"البوليساريو،" وتدهورت مختلف العلاقات التي حافظ عليها مع الدولة الجزائرية... إلخ. وهي السنوات العشرون التي مكّنت الجبهة من تركيز بعض قواتها الفعلية والرمزية، تحت مسمّى "الأراضي المحرّرة"، في المنطقة العازلة، حيث بئر لحلو وتيفاريتي ومحيرس..، شرق الجدار الأمني، وقوّت تدريباتها العسكرية، ولم تتوقف عن القدح في المغرب والبحث عن الاعتراف بـ"الجمهورية"... إلخ.
في غيبة التحقق الفعلي للجمهورية المقترحة، لا يمكن أن تتبادر إلى الذهن إلا "صورتها المتخيلة"، صورة مشوّشة عندما تُلصق بها صفات أخرى: "العربية"، "الصحراوية"..
معنى هذا أن مرور السنوات كان شاهداً، أكثر من أي شاهد آخر، على أن الأمم المتحدة، رغم أنها تُجَدِدُ لقواتها في المنطقة (المينورسو) باستمرار، وتصوغ قراراتٍ تتعلق بالصراع، مع التحذير من عواقبه، لم تستطع الإتيان بالحل السلمي المُرضي، وبقيت المعاناة المضنية التي تقاسيها فئة من السكان، الموجودين في ظروف استثنائية منذ أزيد من 40 سنة، سُبَّة في وجه تاريخ الصراع والمتصارعين معا.
يثيرني بعد هذا أن "البوليساريو" أصبحت تتكلم، منذ شهور، عن حرب مفتوحة، حين قالت في بيانها في نوفمبر/ تشرين الثاني من سنة 2020 بأنها مُجَنَّدَة لـ"اتخاذ الإجراءات والتدابير المتعلقة بتنفيذ مقتضيات حالة الحرب". ولا يبدو أن إعلام الدولة المغربية، الرسمي وغير الرسمي، يعنيه أن يتكلم عن ذلك في أي حال. فهل يمكن الافتراض، بناء عليه، أن الحل العسكري، رغم جولات فشله المتكرّرة، ما زال ممكنا ولو في إطار البحث عن الحل السلمي الذي ترعاه الأمم المتحدة؟ وهل هو الاختيار الأسلم في المناخ الدولي القائم على التسويات، رغم الحروب الموجودة، لتحقيق "الأماني الوطنية" المتنازع عليها إذا ما كان الانفصال أمْنِيَّة؟ وهل، في النهاية، يمكن الافتراض أن الكفاح المسلح سوف يكون قادراً، في مواجهة دولة كالمغرب، على تحرير الأرض وبناء دولة جديدة في المنطقة؟ كم يلزم من الانتظار والمعاناة ومن الوقت المهدور؟
الهدف الثالث والأخير الترافع عن "الوجود القانوني والجغرافي" للجمهورية التي أعلنتها البوليساريو في فبراير/ شباط 1976 عربية، صحراوية وديمقراطية، فباركها نظام معمّر القذافي، واحتضنتها الدولة الجزائرية بالحماس الذي أبداه الرئيس بومدين، لأنها في الوعي نسخة مصغرة من جمهوريته اليعقوبية، وعلامة تنافسية بارزة إذا ما تحقّق وجودها، في يوم ما، سوف تكون السند الجنوبي لتحصين مختلف الاستراتيجيات الساعية إلى بسط هيمنة الجزائر على الصعيد المغاربي وفي منطقة الساحل.
"الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية" ليست كيانا، بل صورة شبه "مُشَخَّصَة" في الذهن، لا أثر لوجودها في الواقع
وفي غيبة التحقق الفعلي للجمهورية المقترحة، لا يمكن أن تتبادر إلى الذهن إلا "صورتها المتخيلة"، صورة مشوّشة عندما تُلصق بها صفات أخرى: "العربية"، لها مضمون محدّد صيغت به نُظُمٌ في فترة النهوض القومي، وَمُقَوّماتُ عربيةِ تلك النُّظم كانت في إطار المشاريع القومية عربيا، بحكم اللغة والدين والتاريخ، لإحداث التغيير المنشود في الأنظمة والاختيارات. "الصحراوية"، صفة فارغة لأن دلالتها لا تقتصر عليها، بل على مجال جغرافي شاسع، وإذا ارتبطت الدلالة بالسياسة تحوّلت الصفة إلى نَوْعٍ، فينسحب التعريف على كل من ادَّعَاه. و"الديمقراطية"، صفة تحكّمية لأنها لا تستقيم مع أيٍّ من التعاريف التي للديمقراطية إلا إذا كانت مركزية، كما هو الحال في البناء اللينيني المعروف على صعيد الحركات الثورية. و"الجبهة الشعبية" في الجمهورية الصحراوية هي الحزب الوحيد في مخيمات اللاجئين، بل لا يمكن لمنظمة عسكرية أن تصبح ديمقراطية بسبب التصوّر الأيديولوجي والسياسي المتحكم فيها، القائم على الانضباط والطاعة الواجبة لـ"القائد" في إطار المركزية شديدة الوطأة على "الجنود".
الحال أن "الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية" ليست كيانا، بل صورة شبه "مُشَخَّصَة" في الذهن، لا أثر لوجودها في الواقع (إلى أن تتحقّق) مهما كانت الدلالات السياسية أو القانونية المستخدمة في الدعاية للاعتراف بها. عَدَمُها هو وُجُودها الغائب.
أهداف ثلاثة لم يتحقق من سيرورة مبانيها الدلالية، على امتداد 50 سنة، إلا اليأس الذي يستبدّ اليوم بعقول الراغبين في السلام، لأنهم لا يروْن إلا مؤشّرات حرب مدمّرة تبدو قادمة على سَرْجِ العداوة المشحونة بالشوفينية الطائشة.