التصالح مع من؟
التصالح وأنت تحت وجع السكين تنزف دماً فيه هدر للكرامة، حتى وأنت تتصالح مع أخٍ لك. التصالح من أجل مصلحة الفكرة ولمّ شملها، كي تعمّ أيديولوجية سياسية، كما فعل اليسار مع جمال عبد الناصر، وكما دشّن مذلتها أحمد فؤاد نجم عاطفياً في قصيدة يقول فيها "وان كان جرح قلبنا كلّ الجراح طابت" به مكيدة شعرية رخيصة للخصوم، و"تلقيح" كلام أشبه بتلقيح كلام الضرائر، بعد أن يذهب زوج الاثنتين إلى الغيط بمواشيه، ومسحاً للجرم الدكتاتوري برمّته ببيت شعر عاطفي عن الذات، ومكيدة للخصم السياسي مرة واحدة.
ولا يضاهيه عبثاً، إلاّ رقص أحمد فؤاد نجم نفسه، بعد القصيدة بما يقرب من أربعين سنة في استديوهات رجل الأعمال، محمد أبو العينين، بالجلابية البيضاء والعصا والشال الأبيض، نكاية أيضاً في الخصوم أنفسهم، الإخوان المسلمين بالطبع، بعد "30/ 6" مباشرة. ومن محاسن المصادفات أن يصير أبو العينين نفسه هو وكيل البرلمان "المالي والأدبي" والمتحكّم الأساسي في تمرير كلّ القوانين في البرلمان، يعني هو البرلماني حامل حقيبتي المال والأعمال، وأحمد موسى في الحقيبة أيضاً، فهل كلّ تلك الأحداث من قبيل المصادفات أم أنّ "أبو النجوم" قرأ، من خلال الوعود، كلّ ما تداريه النجوم وطوالعها عن الشعب؟ وهو شاعر الشعب بكلّ تأكيد.
نتصالح، كيف ولماذا وبأيّة حيلة تبرّر لأيّ جلّاد بأن يكون بطلاً قاسيا على الخصوم، وقاسياً على الجميع في عشيةٍ وضحاها؟ هذه ليست مصالحات، ولكنّها مواءماتٌ تحت سطوة الألم، كي يجد أولاد الطرف الضعيف "صاحب الألم" وأحفاده مكاناً لهم في جسد الدولة، وظيفة، أو قطعة أرض، أو كتابة سيناريو، أو تتر غنائي لمسلسل، أو قطعة أرض في أرض الإعلاميين، يكون رئيس مجلس إدارتها وحارس بوابتها وسارقها أيضاً توفيق عكاشة، بعد أن يجلس في البيت من غير عمل، يحلب البقرات ويدفدف على الأوز والبط، ويجمع البيض في السلال، كما حدث في التصالح الصوري مع نجم نفسه، والشيخ إمام بعد النكسة، بواسطة من رجاء النقّاش، والسماح لهما بدخول التلفزيون بالعود، لرفع معنويات الشعب بعد الهزيمة، خصوصاً أنّهما من تندّر على الجيش غناء ولحناً في "ما أحلى رجعة ظباطنا" بعد الهزيمة.
كيف يكون التصالح تحت جبر السكين، أو تحت خبز المصالح. هذا ما أريد تأمله من دون وجع أو خوف أو تبرير للجلاد نكاية في خصوم. والجميع كانوا سواء في حمل البندقية أمام عدو أساسي منذ 1948، وما زالوا يدفعون الدم من أولادهم وأحفادهم وأولاد الأحفاد أيضاً في السجون، وعلى خطوط القتال، اتفقت أو اختلفت معهم وسميتهم إرهابيين. والآن، تقترب منهم بالأدوات الهندسية للإعمار بعد العدوان، كيف يكون التصالح من القلب، لا تنفيساً عن مأزق فرضته الأحداث؟ ولا جرياً وراء إشارات المهيمن على مجمل اللعبة، كي تستمر المعونة والأسلحة المسلطة على صدور الشعب وبناء سجن رهيب في معدل كلّ ثلاثة أشهر؟ كيف تحوّل الخلاف إلى تصفية، وكيف تحوّلت السياسة إلى مجزرة، وكيف تحوّل الطمع في السلطة واستحواذها مدى الحياة مع المال بالطبع، إلى ميراثٍ مقدّس لفئة تنفق من جسد الدولة، وتتحوّل من حماية الوطن، إلى حكمة بالسلاح تنفيذياً وتشريعياً وقضائياً أيضاً، فماذا يبقى للمواطن؟ أن يمشي فقط في الشارع صامتاً، ويتوجّه للمصالحة على الشقة، أو إلى الشهر العقاري، لدفع الضريبة؟ كيف تتصالح مع من يهدر حقك في بيتك، بعدما أدار المذابح سبع سنوات، تم فيها بناء أكبر عدد من السجون لم يشهدها العالم العربي خلال تاريخه، حتى في زمن الحجاج بن يوسف؟ الفرق أنّ الحجاج، على الرغم من قسوته كان عالماً ولا يهرتل.
نحن نعيش منذ ثماني سنوات متاهةً لا هي سياسية، ولا هي وطنية، متاهة مصنوعة في الأستديو. ولم تستطع المتاهة محو جرائم خطف السلطة ولا الدم، والقاتل نفسه يعرف ذلك، فما بالك بمقتولٍ يجبر على المصالحة أو المشاركة أو التعاون مع الوطن ضد الإشاعة، وهم صنّاعها ليلاً؟ الأشجار تتنفس بصعوبة، الكلّ يقول ذلك، ولا يبوح به، إلا لنفسه، والمجال العام شبه مغلق، إلا للصوص فيلات إلهام شاهين، أو سيد رجب. وتعود المسروقات بسرعة البرق، تمثيليات تصنع خلال ثماني سنوات، يحتاج فيها المخرج والمصور إلى التدريب، تمثيليات تثير الضحك حيناً، تمثيليات لتجميل الأكاذيب، يأخذ مقابلها أهل الفنّ أجورهم، كي يذهبوا إلى منتجعات ساويرس مجاناً في الشتاء، أو توقيع العقود قبل رمضان، أو تمثيليات ممثلٍ تم الحجز على أمواله، كمحمد رمضان، وما زال النيل يجري، والمشهد برمته يدعو إلى الأسى.