التعاطف مع الضحية وليس القضية
العالم بحاجة لقضايا كبرى ليقف معها. والعالم هنا، بالطبع، ليس حكوماته الفاسدة العاجزة عن أن تقف أمام مسؤولياتها الأخلاقية، ولا هي المنظمات الدولية التي يشكّل صمتها انتهاكاً لتفويض إنشائها، بل المقصود بالعالم بالطبع شعوب العالم، مواطني العالم الأحرار الذين بات ما يجري حولهم صادماً لهم وغير مقبول بأي حال. ليس العالم الذي وقف متفرّجاً على ما يجري، بل وكثير من دوله الغربية قدّمت مساعدات مالية وعسكرية لإسرائيل من أجل أن تواصل ضربها غزّة بطريقة جعلت منها طرفاً في العدوان الجاري على قطاع غزّة. ليس هذا العالم الذي وقف ضد الحرب، بل عالم آخر من المواطنين العاديين وطلاب الجامعات الذين انتصروا للقيم التي آمنوا بها وقرأوا عنها وللأخلاق التي تعلّموها في دروسهم.
هل وجد هؤلاء في ما يحدث في غزّة قضية كبرى تستحقّ النضال من أجلها؟ يبدو الأمر كذلك. ثمّة جيش يقتل ويدمّر ويرتكب المجازر كل يوم وفي كل ساعة، غير مكترث لمشاعر العالم، وغير ملتفتٍ إلى ردة فعله. القضية قضية ضحية بحاجةٍ لمن يعرّف فيها ويتحدّث عن عذاباتها، هذه الضحية التي يقف العالم الرسمي متفرّجاً أمام ما يجري بحقها تحاول جاهدة أن يسمع الآخرون صوتها. لكن عبثاً، وأمام ذلك كله، ثمّة حاجةٌ لنضال أخلاقي من أجل أن يُسمع صوت هذه الضحية. ويمكن القول، بقليل من اليقين، لكنه اليقين الكافي ليكون حقيقة، إن المظاهرات في الجامعات الاميركية سلطت الضوء على طبيعة الحرب أكثر من كل المظاهرات في العالم، وربما إلى جانب التفاني المطلق للصحافة الحرّة ونضال المواطن الفلسطيني في غزّة في فضح ما يجري. كان لهذه التظاهرات دور كبير في الدفع باتجاه تنامي ضغط إدارة الرئيس بايدن، رغم ضعف هذا الضغط على تل ابيب من أجل عدم اجتياح رفح مثلاً، ومن أجل التوصل إلى تسويةٍ تخفّف من حدّة الحرب، وقد تفضي إلى وقفها بشكل كامل. بات العالم في تحدٍّ أمام أخلاقه، وصار يواجه نفسه وضميره، إذا ما كان يقبل ما يجري ويباركه، أو أنه لمرّة واحدة في صراع عمره 76 سنة سيقف ليواجه الحقيقة، فما يجري ليس صراعاً بين جاريْن، بل هو اعتداء من دولة غاشمة تستخدم أحدث التكنولوجيا الغربية وآخر ما وصلت إليه مصانع السلاح الأميركية والأوروبية من أجل إبادة شعب أعزل.
باتت بشاعة ما جرى طوال الشهور الماضية مستفزّة لضمائر العالم ومشاعره، خصوصا مع تناقل آلاف الصور والفيديوهات بشأن جرائم لم يسبق لهؤلاء الطلبة أن شاهدوها، فربما سمعوا عن شيءٍ مثيل لها في التاريخ، وقرأوا عن أحداث فظيعة، ولكن هذه كلها بالنسبة لهم كانت من الماضي الذي لم يخبروه، لكنهم الآن يخبرون ويعيشون في عالم تجري فيه كل هذه الفضائح وهم يسمعون ويشاهدون أثرها وضحاياها يوماً بيوم، بل إنهم يعرفون تفاصيل المذبحة وبشاعة ما يجري في اليوم نفسه الذي يجري فيه. لقد بات ضميرُهم ليس أمام المحكّ، بل بات معرّضاً للعطب وللفساد إن هم سكتوا ووافقوا على ما يجري.
باتت بشاعة ما جرى في غزّة مستفزّة لضمائر العالم ومشاعره، خصوصا مع تناقل آلاف الصور والفيديوهات بشأن جرائم لم يسبق لطلبة الجامعات أن شاهدوها
لاحظوا أن بداية الهبّات الجامعية بدأت في صفوف طلاب العلوم الإنسانية وكليات العلوم الاجتماعية، لأن هؤلاء هم من يدرسون القيم والمرجعيات الأخلاقية والكتابات الفلسفية، وهي تخصّصات تتوزّع بين العلوم السياسية والقانون وعلم الاجتماع. حتى أن بعض التظاهرات في جامعات فرنسا وغيرها من الجامعات الأوروبية أيضاً كانت ضمن السياق نفسه، أي دعا لها طلاب كليات العلوم السياسية، كما هو الحال في فرنسا. المؤكّد أن ثمّة طلاباً من التخصصّات كافة، ولكن يجب الانتباه إلى أن ثمّة حضوراً واضحاً لطلاب العلوم الإنسانية والاجتماعية، وحتى أساتذة الجامعات الذين شاركوا في هذه المظاهرات كانوا من أساتذة الفلسفة والقانون. بعد ذلك، وضمن نظرية التأثير والتفاعلات الجانبية امتدّت التظاهرات وشارك فيها طلابٌ من كليات مختلفة.
ما يجري في الجامعات الأميركية هو نتاج جهود تراكمت عبر الزمن بدأت ربما بوجود الطلبة العرب في تلك الجامعات منذ ستينيات القرن الماضي، وبعد ذلك بروز أسماء لامعة في حقل العلوم الإنسانية في الجامعات الأميركية، أمثال إدوارد سعيد وإبراهيم أبو لغد وهشام شرابي وسميح فرصون ورشيد الخالدي من الجيل الأول، وبعد ذلك الحضور اللافت للباحثين الشباب من أصول فلسطينية وعربية في تلك الجامعات. وأقوى الاحتجاجات كانت ربما في جامعة كولومبيا حيث يظلّ إدوارد سعيد أبرز أساتذتها في النصف الثاني من القرن العشرين، وحيث ظلت أفكاره تؤثر في وعي طلبة الجامعة وفي دور الجامعة في المجتمع. لم يكن سعيد مجرّد أستاذ جامعي، ولم يكن مجرّد مفكر أضاف إلى الوعي الإنساني بعداً آخر بإضاءته الثمينة على مفهوم الاستشراق بالاعتماد على تفكيك النصوص الغربية، بل كان هوية بالنسبة لجيل كامل في كولومبيا، وهو ما جعل الجامعة تخصّص كرسياً بحثياً باسمه.
يجب أن تصبح قضية الشعب الفلسطيني إنهاء الاحتلال، قضية العالم الكبرى، القضية الأخلاقية التي تعيد إلى من يتضامن معها جزءاً من جدارته الأخلاقية واستقرار ضميره
كان دور الجامعات تاريخياً مناهضاً للحروب. وطوال التاريخ المعاصر وقف طلاب الجامعات ضد حروب مختلفة وخرجوا في تظاهراتٍ كبيرة. ويشهد التاريخ، أيضاً، على دور كبير للجامعات في الدفع باتجاه التغيير الاجتماعي، وفي الدفاع عن الحرّيات، ويمكن استحضار أمثلةٍ كثيرة في ستينيات القرن الماضي في أوروبا تحديداً، كما في أميركا في ما يتعلق بحرب فيتنام. ولكن الملاحظ أن هذه من الحالات القليلة التي يخرُج فيها طلاب الجامعات ضد حربٍ بعيدةٍ عنهم لا يتأثرون بها. على عكس الحرب الأميركية في فيتنام التي كانت تمس حياة الطلاب، فهم الجنود الذين يلتحقون بالمعركة، فيما الحرب الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني في غزّة لا تمسّهم بشكل مباشر.
ومع ذلك، القضية الكبرى التي يخرُج من أجلها العالم هي جرائم الاحتلال والحرب التي يجب أن تقف، وليست الحقوق الوطنية الفلسطينية. بمعنى أن هؤلاء الذين يخرجون في الجامعات ويتصادمون مع الشرطة ويقيمون خياماً في مباني الجامعات وباحاتها لم يخرجوا من أجل إنهاء الاحتلال، ولا تأييداً للدولة الفلسطينية المستقلة، بل من أجل وقف الحرب والمذابح. مع ذلك، يمكن ملاحظة وجود أصواتٍ ولافتاتٍ تطالب بحرية فلسطين وإنهاء الاحتلال، لكنها لم تكن الأصوات التي ميّزت هذه التظاهرات بوضوح. خرج الطلاب احتجاجاً على فكرة الحرب، وعلى سلبية العالم في التعاطي مع الجرائم التي تحدُث بحقّ المدنيين العزّل، وهو احتجاجٌ نابع من الفكرة، وليس من طبيعة الصراع. التعاطف مع الضحية وليس مع قضية الضحية.
التفريق بين الضحية وتطلعّات الضحية السياسية لا يساعد كثيراً في تسليط الضوء على الدعم الواجب أخلاقياً لهذه التطلّعات
ثمّة فرقٌ كبيرٌ بين الانتصار للفكرة أو الانتصار للحقوق. ما يجري هو انتصارٌ للضحية ولعذابات الضحية ومطالبة بوقف ما يتعرّض له الضحايا من مذابح ومجازر، بغضّ النظر عن طبيعة مطالب الضحية، وبغضّ النظر عن طبيعة الصراع، إذا ما كان احتلالاً يجب النضال من أجل إنهائه أو مجرّد عدوانٍ تشنّه دولةٌ على شعبٍ آخر. التفريق بين الضحية وتطلعّات الضحية السياسية (وآمالها) لا يساعد كثيراً في تسليط الضوء على الدعم الواجب أخلاقياً لهذه التطلّعات، لأنه بانتهاء الحرب قد ينتهي التضامن، وقد يتوقّف التأييد الكبير الذي حظي به الفلسطينيون في الجامعات الأميركية. وحتى لا نكون بحاجة لحربٍ جديدةٍ لنحظى بذلك علينا أن نستفيد مما جرى بتحويله إلى تعاطف مع القضية. يجب أن تصبح قضية الشعب الفلسطيني المتمثلة بحقوقه السياسية التي أولها إنهاء الاحتلال قضية العالم الكبرى، القضية الأخلاقية التي تعيد إلى من يتضامن معها جزءاً من جدارته الأخلاقية واستقرار ضميره. هذه هي المهمّة.
وبقدر ما أن هذا ممكن، إلا أنه يشكّل تحدّياً حقيقياً، ليس للفلسطينيين وللنشطاء هناك فقط، بل أيضاً لكل العرب وللطلبة العرب وللنشطاء المؤيدين للقضية الفلسطينية في توظيف ما يجري من تأييد لإنهاء الحرب إلى تأييد للحقوق الفلسطينية ومطالبة بإنهاء الاحتلال. وهذا يتطلّب عملاً مختلفاً ونقاشاً أعمق، يتم فيه تعميم السردية والرواية الفلسطينية عن مجمل الصراع بعيداً عن القضايا التي يمكن أن تبدو صعبة على القبول بالنسبة للوعي الغربي، حيث إن الكثير من السردية الصهيونية يتأسّس على مركبات الوعي الغربي. السردية التي تضع نفسها في قلب التاريخ الغربي منذ فجر الحضارة الأوروبية في الفترتين الهيلينية والرومانية وصولاً إلى عصر الأنوار، وبعد ذلك نشوء الوطنيات والبحث عن الدولة الوطنية. برعت الصهيونية دائماً في جعل نفسها جزءاً من نهر التاريخ الغربي، وبالتالي حصّنت روايتها في وجه أي كشفٍ للتزييف فيها. ومع ذلك، فإن جهوداً حقيقية يمكن لها أن تُحرز الكثير من التقدّم في سبيل كشف هذا الزيف، وفي تحويل الدعم والمظاهرات لصالح الحقوق الفلسطينية القائمة على إنهاء الاحتلال في إطاره كفكرة كبرى. وهذا ممكنٌ مع ذلك.