التعذيب إلى متى؟
رافقت ممارسة التعذيب المجتمعات البشرية منذ تأسيسها ككيانات، وهذه الممارسة التي باتت مُدانة على نطاق واسع، وتُحارب من جهاتٍ مختلفة، دولية وحكومية وغير حكومية، ما زالت موجودة على نطاق واسع، ليس في دول الجنوب فحسب، بل حتى في الديمقراطيات الراسخة. يطل التعذيب بقوة من أجل استخراج المعلومات من المعتقلين بوسائل العنف، عندما تعتبر الدولة نفسها فوق القانون، أو فوق المحاسبة، وهذا ما شاهدناه عندما اعتبرت الولايات المتحدة نفسها بلداً مهدداً بعد أحداث "11 سبتمبر" في 2001، إذ لم تتورع عن استخدام الأساليب غير المشروعة، في مقدمتها التعذيب كما ظهر في معتقل غوانتانامو، وخطف المدنيين من الدول الأخرى، ونقلهم إلى معسكر غوانتانامو للتحقيق معهم. وقد لخص وزير الدفاع حينها، دونالد رامسفيلد، السياسة الأميركية كما نقل الكاتب كرستوفر هـ. بايل في كتابه "التعذيب، التهرّب من المسؤولية" (مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2012)، بالقول: "في النهاية، إذا كان علينا أن نتولى القيادة، فيتوجب علينا أن نتصرّف لنعطي الآخرين الانطباع بأنّنا مجانين العالم، القادرون على فعل ما نشاء... وإذا كنا نسعى إلى تحقيق أغراض نبيلة، فإنّه يتوجب علينا في مثل هذا الحال أن نتصرف بأقسى درجات الخسة والدناءة". ولم يكن نتاج هذه السياسة فقط التعذيب في غوانتانامو، بل وشهدنا فضيحة التعذيب المشينة في سجن أبو غريب بعد احتلال الولايات المتحدة العراق عام 2003.
تورّطت كلّ المجتمعات البشرية في وباء التعذيب، وابتدعت وسائل تعذيبها التي تعتقد أنّها تساهم في بقائها وتدلّ على قوتها، وتحمي جبهتها الداخلية
تتوسّع وحشية التعذيب، وتنتقل من الأفراد إلى الجماعات في الأماكن التي تشهد صراعات دموية، ويمارس حكام الدول أقسى سياسات العنف من أجل الحفاظ على السلطة. وعلى الرغم من كلّ المحاولات والجهود لوقف هذه الظاهرة والحدّ منها، فإنّها، بحسب وصف مندوب مكافحة التعذيب في الأمم المتحدة، ما زالت تشكل "واقعاً مظلماً، على الرغم من إجراءات المنظمات غير الحكومية والحكومية. إذ ما زال التعذيب مشكلة منتشرة وواسعة، وقد أصبحنا مدركين، وبشكل متزايد، تواصل التعذيب، ليس فقط ضد المعارضين السياسيين، بل أيضاً ضد المشتبه بارتكابهم جرائم محددة" فعلى مدى تاريخ المجتمعات البشرية، كانت ممارسة التعذيب جزءاً من التكوين التاريخي للسلطات بوصفه ممارسة عارية لقوة السلطة. وعلى الرغم من وحشية الحضارات القديمة في التعامل مع التعذيب، فإنّ القرن العشرين فاق، في وحشيته، كلّ العصور السابقة، ليس بتطوير آليات التعذيب فحسب، بل أيضاً بتطوير وسائل الإبادة الجماعية التي ذهب ضحيتها عشرات ملايين البشر الأبرياء، والتي إذا قورنت أرقامها مع وحشية الحضارات القديمة، فإنّها قد تتفوّق عليها مجتمعة في الوحشية، وهذا كله بفضل الزيادة المستمرة والمطردة في قدرة الأسلحة على التدمير والقتل.
تورّطت كلّ المجتمعات البشرية في وباء التعذيب، وابتدعت وسائل تعذيبها التي تعتقد أنّها تساهم في بقائها وتدلّ على قوتها، وتحمي جبهتها الداخلية، وتردع الآخرين عن ارتكاب الأخطاء، وتجعلهم عبرةً لمن اعتبر. وكم كان البشر متوحشين، وهم يغرقون في ساديتهم، عندما وظّفوا عقولهم من أجل إبداع وسائل، ليست لها وظيفة سوى إيقاع الأذى والألم ببشرٍ آخرين، مثلهم من أجل امتثالهم للسلطة، ولم يشمل هذا التعذيب المتمرّدين على السلطة فحسب، بل شمل قطاعاتٍ واسعة، اعتقدت السلطات أنّها بذلك تمنعهم من التفكير بالتمرّد عليها. وعلى الرغم من المحاولات الحثيثة لتبرير التعذيب، وتحويل من يُمارس عليهم التعذيب شياطين وكفرة وخونة، يستحقون ما يتعرّضون له، فقد كانت في حقيقتها، وسائل عارية للدفاع عن السلطات القائمة وامتيازاتها، ومحاولة لردع الآخرين عن الاقتراب منها أو تهديدها بأيّ وسيلة.
ما زالت البشرية بعيدةً عن تعلم كيف تحمي أبناء جلدتها من التعذيب الذي يجري في بعض الأمكنة في وحشيةٍ استثنائية
وعلى الرغم من كلّ الجهود التي بذلتها العلوم الاجتماعية والإنسانية للكشف عن طبيعة هذه الظاهرة، وعن جذور العنف عند الإنسان، وعلى الرغم من كلّ الإنجازات التي تحقّقت، فإنّ ذلك لم يجعل المجتمعات البشرية أقل عنفاً أو أقل تعذيباً، فهذه الظاهرة لا يمكن تفسيرها ممارسة فردية، فهي ممارسة تنتظم ضمن آليات عمل السلطة التي تمارس العنف. وبالتالي، ينحدر إلى مزيد من التعذيب كلما شعرت أنّ هناك قوى اجتماعية تهدّدها. وبالتالي تصنع أجهزة تعذيب أوسع وتوظف مزيداً من البشر الذين يمتثلون إلى وظائفهم، بوصفهم ترساً تافهاً في آلة قمع رهيبة وضخمة. وعلى هذا الصعيد، ما زالت البشرية بعيدةً عن تعلم كيف تحمي أبناء جلدتها من التعذيب الذي يجري في بعض الأمكنة في وحشيةٍ استثنائية، تقوم بها السلطات التي يُفترض أن تحمي مواطنها من الاعتداء، لا أن تكون المعتدي الأبرز عليه، كما هو الحال في سورية اليوم، حيث اعتبرت منظمة العفو الدولية سجن صيدنايا "مسلخاً بشرياً" لعمليات القتل والتعذيب التي تعرّض لها المعتقلون في هذا السجن العسكري الذي ارتكبت فيه عشرات آلاف الجرائم ضد المعتقلين. فما زالت سلطاتٌ كثيرة تعالج ما تعتقده "جريمة" بجريمة أكبر، بانتهاك إنسانية الإنسان من خلال التعذيب الوحشي وارتكاب جرائم الحرب ضد المدنيين العزّل.
لم تكفِ كلّ صرخات الألم وملايين الضحايا الذين سقطوا تحت جرائم التعذيب أن تعلّمنا الدرس الأساسي، أن نعامل الآخر بوصفه إنساناً
طُبق التعذيب ويطبق بكلّ تلاوينه على بشر من لحم ودم، ما زالت صرخات عذاباتهم تملأ التاريخ، وتملأ سجون اليوم. فبعد أكثر من سبعة عقود على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948) الذي يحرّم التعذيب، وبعد أكثر من ثلاثة عقود على اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة (1984) ما زالت صرخات المعذّبين تملأ العالم. وكأنّ البشرية ترفض الخروج من وحشيتها، فالوحشية في التعذيب التي مارسها الجلادون قرونا، ما زالت تطبق، وأيّ مراجعة لتقارير حقوق الإنسان تكفي لإعطاء صورة صارخة عن الوحشية التي ما زلنا نعيش في ظلها. ولم تكفِ كلّ صرخات الألم وملايين الضحايا الذين سقطوا تحت جرائم التعذيب أن تعلّمنا الدرس الأساسي، أن نعامل الآخر بوصفه إنساناً بصرف النظر عن جسامة الأفعال التي ارتكبها، على الرغم من أنّ التعذيب يصيب الأبرياء دائماً.