التفاتة بايدن إلى حقوق الإنسان في مصر
على غير عادة الرؤساء الأميركيين الجدد، لم يتصل الرئيس جوزيف بايدن، بالرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، إلا بعد أربعة أشهر من وصوله إلى البيت الأبيض. ولو لم يكن السعي إلى وقف العدوان الإسرائيلي على غزة موضوع الاتصال الأول، ربما لما كان فعلها بايدن. وعلى الرغم من الضغط الذي كان يشكله العدوان، والذي كان موضوع الاتصال الثاني الذي جاء بعد أيام من الأول، إلا أنه كان لبايدن الفرصة ليثير موضوع حقوق الإنسان في حديثه الهاتفي مع السيسي، ما يوحي أنه موضوع ضاغط هو الآخر، وقد قرّر إثارته بعد أن اتبع أسلوب تجاهل السيسي طوال هذه الفترة، وهو ما أعطى النظام المصري الحرّية للتمادي في انتهاك حقوق الإنسان وتمديد حالة الطوارئ ثلاثة أشهر أخرى، في إبريل/ نيسان الماضي.
وفي الاتصال الذي أجراه بايدن مع السيسي، في 24 الشهر الماضي (مايو/ أيار)، شدد على "أهمية الحوار البنّاء في ملف حقوق الإنسان في مصر"، ما أعطى الانطباع عن جدّية الرجل للضغط من أجل حله، ووقف الانتهاكات غير المسبوقة التي تطاول المصريين في عهد السيسي، وخصوصاً في السنوات الأخيرة، غير أنه بعد أيام من هذا الاتصال، نشرت وزارة الخارجية الأميركية وثائق على موقعها على الإنترنت، تظهر فيها أن إدارة بايدن أبقت على المبلغ السنوي المخصص للمساعدات العسكرية لمصر، وهو يتجاوز المليار دولار، من دون نقصان. وهو أمر يدفع إلى استنتاج أن هذه الإدارة لم تُبقِ بيدها وسيلة للضغط على الحكومة المصرية من أجل البدء بذلك "الحوار البناء" الذي أشار إليه بايدن لتحسين واقع حقوق الإنسان في البلاد، والذي أشار تقرير وزارة خارجيته السنوي عن حقوق الإنسان في العالم الذي صدر، أواخر مارس/ آذار الماضي، إلى أنها تُنتهَك في دول حليفة، منها مصر.
دائماً ما كانت الإدارات الأميركية المتعاقبة تضع أمام مصر شرط تحسين أوضاع حقوق الإنسان قبل تسليمها المساعدات السنوية المقرّرة لها منذ توقيع اتفاقات كامب ديفيد
دائماً ما كانت الإدارات الأميركية المتعاقبة تضع أمام مصر شرط تحسين أوضاع حقوق الإنسان قبل تسليمها المساعدات السنوية المقرّرة لها منذ توقيع اتفاقات كامب ديفيد مع الاحتلال الإسرائيلي، وهي مساعدات، عادة ما يكون القسم الأكبر منها عتاداً حربياً، وقسم أقل منه في المجال الاقتصادي. غير أنها في النهاية تسلمها إياها بحجة أن مصالح الولايات المتحدة تقتضي ذلك، على الرغم من عدم انصياع القاهرة للشروط. وفي أحيانٍ كان يُقتطَع جزء من تلك المساعدات، فترة، ثم في فترة أخرى تسلَّم جميعها، هكذا حسب أهواء الفاعلين في تلك الإدارات وتشدّدهم في موضوع الشروط المفروضة. غير أن الملاحظ أن تلك الإدارات تحصد الفشل في جهدها لحثّ مصر على تحسين حال حقوق الإنسان. وعلى العكس تماماً، ذكرت تقارير أميركية أن نظام السيسي قوَّض مصالح الولايات المتحدة في أحيان كثيرة، باتباعه سياسة عدائية داخل المجتمع المصري، تدفع بعض الجهات إلى أن تصبح أكثر راديكالية، ما يهدّد استقرار مصر والمنطقة.
وفي هذا السياق، كان الكونغرس الأميركي قد وضع، نهاية السنة الماضية 2020، شرط إحراز تقدُّمٍ في مجال حقوق الإنسان في مصر لصرف مبلغ 300 مليون دولار من مجموع المساعدات السنوية المقدرة بـ 1,3 مليار دولار. كذلك علق الكونغرس منحها مبلغ 225 مليون دولار من تلك المساعدات، حتى يتسلم تقريراً من الخارجية الأميركية يؤكد أن القاهرة قد التزمت، خلال العام الذي سبق، التقيد بالقانون وبحماية الأقليات وحقوق المرأة وإجراء إصلاحات في مجال حرية التعبير والتجمع وتقديم رجال الأمن المتهمين بانتهاك حقوق الإنسان للمحاسبة أمام القضاء. كان هذا خلال عهد الرئيس السابق، دونالد ترامب، الذي كان يعتبر السيسي ديكتاتوره المفضل. أما بايدن الذي أراد وقف الشيكات على بياض المخصصة لهذا الديكتاتور، عندما قال جملته الشهيرة، في أثناء حملته لخوض الانتخابات الرئاسية: "لا شيكات على بياض لديكتاتور ترامب المفضل بعد الآن"، والذي كرّر الناطق باسم الخارجية الأميركية، نيد برايس، أواسط مارس/ آذار الماضي، خطاب رئيسه عن تلك الشيكات، فقد أبقى على هذه المساعدات من دون أي شرط.
ذكرت تقارير أميركية أن نظام السيسي قوَّض مصالح الولايات المتحدة باتباعه سياسة عدائية داخل المجتمع المصري
الآن، بعد أن تواصل بايدن مع السيسي، كان هنالك الكثير لكي يفعله، وهو الذي أبكر في الإفصاح عن موقفه تجاه السيسي وانتهاك نظامه حقوق الإنسان، وعندما تأخر بالاتصال بالرئيس المصري، على غير عادة الرؤساء الأميركيين الجدد. كذلك كان عليه أن يترجم هذه المواقف إلى سياسة عبر ربط فسح المساعدات المقرّرة مع لمس التطور في حقوق الإنسان، من قبيل وقف العمل بقانون الطوارئ الذي يمدّد حالة الطوارئ كل ثلاثة أشهر، والتغييب القسري داخل المعتقلات، ووقف التعذيب الذي عادة ما يؤدي إلى وفيات بين المساجين، علاوة على الوفيات الناجمة عن ظروف الاحتجاز السيئة وحرمان الطبابة. كذلك إلغاء التوقيف العرفي ووقف سياسة الإعدامات الجماعية وإطلاق سراح السجناء السياسيين، ومن بينهم أميركيون من أصل مصري تهاون ترامب مع قضيتهم. كذلك إعطاء الضمانات للمنظمات غير الحكومية ومنظمات حقوق الإنسان والمجتمع المدني، من أجل العودة للعمل بشكل شرعي وحر.
بعد إعلان فوزه في الانتخابات، ذكرت صحف غربية رئيسية، ومنظمات حقوق إنسان، أواخر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، أن قضية انتهاك حقوق الإنسان في مصر ستكون اختباراً حقيقياً لبايدن وإدارته الجديدة، وستحدِّد مدى جدِّية هذه الإدارة في التعامل مع هذه القضية. وكتبت إحدى الصحف أنه حان الوقت لوضع حدٍّ للكذبة التي تتحدث عن أن نظام السيسي أداة دعم الاستقرار الرئيسية في الشرق الأوسط، في حين أنه يُبقي نفسه في السلطة، عبر أساليب استبدادية تفاقم المشكلات. يومها كان النظام يشنُّ حملة اعتقالات بحق نشطاء حقوق إنسان وصفتها الصحف بأنها "هجوم شامل" على تلك المنظمات وعلى المجتمع المدني. ومع أن هذا الهجوم الشامل لم يتوقف منذ المجزرة في ميدان رابعة العدوية في أغسطس/ آب 2013، وما تلاها من انتهاكات مستمرة، يخطط بايدن لصرف كامل المساعدات لمصر، متناسياً ما كان يلهج به تجاه نظامها، ربما لكي يثبت لتلك الصحف ولمنظمات حقوق الإنسان الدولية أنه فشل في الاختبار الذي كان حرياً به السعي إلى النجاح فيه.