تغييرات جذرية في النظام العالمي ... التفادي الضريبي وآفاق الاستفادة للدول العربية
تخسر دول العالم ما بين 100 - 240 مليار دولار كل عام، حدا أدنى، نتيجة التفادي الضريبي الذي تمارسه الشركات العالمية. وهنا تجدر التفرقة بين التهرّب الضريبي (tax evasion) والتفادي الضريبي (tax avoidance)، حيث يتمّ استخدام المصطلحين بالتبادل، بالرغم من اختلاف أساسي في المعنى. يشمل التهرّب عمليات غير قانونية تقوم بها الشركات لكي لا تدفع الضرائب على عمليّاتها المختلفة. أمّا التفادي فهو يشمل عمليات تحترم المواد القانونية تقنيًّا، وتستفيد من الثغرات القانونية المختلفة بين الأنظمة الضريبية المختلفة للدول، لعدم الدفع أو دفع أقل قدر ممكن من الضرائب. وقد زادت قدرة الشركات العالمية لتفادي دفع الضرائب مع التغييرات التكنولوجية وزيادة رقمنة الاقتصاد عالميًّا.
بالإضافة، أثبتت القوانين الضريبية العالمية المعتمدة سابقًا أنّها لم تعد قادرةً على موازاة العلمنة والرقمنة والتغييرات الاقتصادية واستراتيجيّات التفادي الضريبي للشركات. بعد سلسلة من الأزمات العالمية، أهمّها أزمة 2008 وتسريبات فاضحة كفضيحة أوراق بنما، ازداد وعي الشعوب عامة، ومعها الضغوط على الدول، بشأن ضرورة إجبار الشركات الكبرى على دفع حصتها من الضرائب، ما دفع النقاش حول القوانين الضريبية العالمية إلى مقدّمة أولويّات المنظّمات العالمية.
بناء على ذلك، قامت منظّمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، المعروفة كمنظّمة "الدول المتقدّمة"، بمبادرةٍ تهدف إلى مواجهة تآكل الوعاء الضريبي ونقل الأرباح (BEPS). وهنا الإشارة إلى القاعدة الخاضعة للضرائب للدول وتحويل الأرباح إلى الملاذات الضريبية. أي، بمعنى آخر، إلى مواجهة التفادي الضريبي. وتطوّرت المبادرة إلى "الإطار الشامل" الذي يضم أكثر من 135 دولة. نظرًا إلى أنّ القوانين الضريبية العالمية لطالما أفادت "الدول المتقدّمة"، ووُضِعَت تبعًا لإراداتها، بينما تحمّلت الدول ذات الدخل المنخفض تبعاتٍ غير متناسبة للتفادي الضريبي. كان على الطابع التشاركي لهذه المبادرة أن يعالج هذه المشكلة، وأن يفسح المجال للدول ذات الدخل المنخفض أن يكون لها صوت ودور أساسي في وضع القوانين الجديدة للنظام الضريبي العالمي وديناميكياته.
موازين القوى الداخلية واستفادة الدول ذات الدخل المنخفض
تمّ نقد الإطار الشامل على أنّه تشاركي شكليًّا فقط، وأنه جرت "دعوة" الدول ذات الدخل المنخفض فقط بعدما تمّ وضع النقاط الأساسية للمبادرة، بالإضافة إلى أنّه، وبالرغم من مشاركة هذه الدول في الاجتماعات العامة، فإنّ دورها في مجموعات العمل المصغّرة التي تُعنى بتفاصيل القوانين الجديدة والسياسة الفعلية محدود وحتى مشاركتها بالاجتماعات العامة مقيّدة، نظرًا إلى الإمكانات المادية اللازمة لتجهيز ودفع تكاليف وإرسال خبراء إداريّين وقانونيّين في المجال الضريبي.
إضافةً، إنّ الخلاصات التي توصّل إليها الإطار تتضمّن عديدا من علامات الاستفهام وتأويلات مختلفة لتداعياتها. من أهمّ هذه الخلاصات وبشكل ملخّص ركيزتان. الأولى معنية بتجهيز القوانين الضريبية العالمية للرقمنة، وتوزيع الضرائب حسب أماكن النشاط الاقتصادي للشركات، وليس حسب تسجيلها. أما الثانية فمعنية بوضع ضريبة حد أدنى 15% على الشركات العالمية، وإجبارها على دفع هذه الضرائب في دولة ما. ما يعني ذلك عمليًّا، هو إذا كان لدولة "أ" معدّل ضريبة دخل على الشركات أقلّ من 15%، وقامت شركة قائمة في دولة "ب" بنقل بعض أصولها إلى الدولة "أ" لتستفيد من ضرائب مخفضة، يُسمَح للدولة "ب" أن تضع ضرائب زائدة على الشركة، حتى يصل مجموع الضرائب المطلوب إلى 15%.
يتحوّل النقاش بشأن النظام الضريبي العالمي نحو تأمين الدفع الضريبي الكامل، بينما كان في السابق يُعنى بعدم وضع ضريبة مضاعفة على الشركات، أي أن تدفع الشركات ضريبةً في بلدَين
تتمتّع معظم الدول ذات الدخل المنخفض بمعدّلات ضريبة دخل على الشركات أكثر من 15%، حيث معدّل ضرائب الدخل على الشركات في قارّة أفريقيا يتجاوز الـ27% على سبيل المثال. بناء على ذلك، لن تستفيد الدول ذات الدخل المنخفض فعليًّا من قوانين كهذه، إلا إذا كانت تقدّم إعفاءات ضريبية كثيرة للشركات، وهنا حديث آخر. يتضمّن الإطار نقاط عمل أخرى عديدة، ولكن خلاصة الأمر بالنسبة للدول ذات الدخل المنخفض أنّ الاستثمار في مبادرة كهذه والمكسب الاقتصادي منها لا يزال موضع بحث، وتعاني دول كثيرة من أجل اتخاذ قرار نهائي على هذا الصعيد.
ولكن تحليل المبادرة من وجهة نظر اقتصادية وتقنية غير كاف لتقييم قيمة المبادرة بحد ذاتها، وما تعنيه للنظام الضريبي العالمي والعدالة الاقتصادية، فهي تشكّل سابقةً في تاريخ النظام الضريبي العالمي، وتحوّلا غير مسبوق في قوانينه.
بدايةً، يتحوّل النقاش بشأن النظام الضريبي العالمي نحو تأمين الدفع الضريبي الكامل، بينما كان في السابق يُعنى بعدم وضع ضريبة مضاعفة على الشركات، أي أن تدفع الشركات ضريبةً في بلدَين. الآن يرتكز حول إجبار الشركات على "دفع حصّتها من الضرائب". إن وعي الشعوب وتقلّص الأمية الاقتصادية وإدراكها كثرة عمليات التفادي الضريبي، خصوصًا في الدول المتقدّمة كفرنسا وغيرها، أدّت إلى ضغوط كبيرة على الدول لفتح النقاش حول تغيير النظام الضريبي العالمي. ومن هنا، تضاربت مصالح بعض الدول المتقدّمة، حيث وضعت فرنسا، على سبيل المثال، ضريبة على الشركات الرقمية، وهو ما اعتبرته الولايات المتحدة هجومًا على شركاتها، بما هي مسقط رأس عديد من هذه الشركات. ومع الوقت، ازداد عدد الدول التي تضع ضرائب محلية مبنية على النشاط الاقتصادي للشركات الرقمية، وليس فقط على مكان تسجيلها الرسمي. تفاديًّا لـ"الفوضى الضريبية" وازدياد عدد الضرائب بمبادرة فردية من الدول، أقرّ الجميع ضرورة الالتقاء ونقاش الأمر ضمن ساحة مشتركة. وتشكّل هذه سابقةً من حيث استعداد دول عديدة، خصوصا المتقدّمة منها، على التنازل عن "سيادتها الضريبية" واتخاذ القرارات تشاركيًّا. ومن هنا، فإنّ تضارب مصالح الدول المتقدّمة يشكّل فرصة للدول ذات الدخل المنخفض لأن تدخل في النقاش.
القوانين الضريبية العالمية معقّدة وتحتاج خبرات تقنية عالية
ثانيًا، توحيد الجهود ما بين الدول ذات الدخل المنخفض، كالذي يقوم به منتدى إدارة الضرائب الأفريقي (ATAF)، حيث توحّد دول أفريقيا الوسطى الجهود والتفاوض ضمن الإطار ككتلة واحدة، يزيد من تأثيرها على عمليّات اتخاذ القرار وتحوير اتجاه القوانين الضريبية العالمية.
وأخيرًا، بما أنّ القوانين الضريبية العالمية معقّدة وتحتاج خبرات تقنية عالية، لا تزال الموارد المحدودة للدول ذات الدخل المنخفض عائقا أساسيا لمشاركتها وفرض أولويّاتها على النقاش التقني للإطار. ومن هنا، تقدّم مبادرات عديدة، محلية وإقليمية وعالمية منها، الدعم التقني وبناء القدرات للدول ذات الدخل المنخفض. وبالفعل، أثبتت التجارب في السنوات الأخيرة أنّ دولا عديدة تمكّنت من دخول "الغرف المغلقة" بعدما طوّر مفاوضوها قدراتهم التقنية والتفاوضية.
آفاق الدول العربية وإمكانية استفادتها من المشروع
تشارك 11 دولة عربية من أصل 22 في الإطار، ولأسبابٍ مختلفة، من ضمنها البحرين التي يبلغ معدّل ضريبة دخلها على الشركات 0% والإمارات التي يراوح المعدل فيها بين 0% و9% (إذا تجاوز مدخول الشركة 375.000 درهم). تستفيد هذه الدول من الإطار نظرًا إلى متضمّنات أخرى معنية بتعزيز الشفافية المالية في عمليّات الشركات العالمية، وأيضًا لأسباب ديبلوماسية.
هناك عدّة عوامل على البلدان عامة أخذها في الاعتبار، أهمّها أولويّاتها في ما يخصّ القدرات التي بإمكانها استثمارها، خصوصًا في البلدان ذات القدرات المحدودة. فعلى هذه الدول الاختيار بين الاستثمار في تطوير أنظمتها الضريبية المحلية أو الاستثمار في تطوير القدرات للخبراء الضريبين في ما يخصّ الشركات العالمية والقوانين الضريبية العالمية وتجهيزها للمشاركة في المنتديات العالمية. كما عليها مقارنة المعدّلات الضريبية والقوانين الحالية والاتفاقات الضريبية التي أعدتّها مع دول أخرى وشركات وكيف سيتأثّر انضمامها للمبادرة وموافقتها على متضمّناتها عليها، أو حتى اختيار مسار ثالث بديل بتدابير أخرى لا تشمل الانضمام إلى الإطار أو الاتفاقات والقوانين المحلية الحالية.
لا تزال الأنظمة الضريبية في بلدان عربية عديدة غير قادرة وغير مهيّأة لمتابعة عمليات الشركات العالمية، وخصوصا الرقمية منها
أمّا بالنسبة للبلدان العربية، تجدر الإشارة إلى ثلاثة عوامل تخصّها بالتحديد، على الدول أخذها في الاعتبار لتحديد موقفها من الإطار.
أوّلًا، يُقَدَّر أن حجم الاقتصاد الرقمي في الشرق الأوسط سيصل إلى 500 مليار دولار في العام 2030، وهذه كمّية هائلة من العمليّات الاقتصادية التي تتضمّن قاعدة ضريبية واسعة بإمكان الدول العربية جباية الضرائب منها. لا تزال الأنظمة الضريبية في بلدان عربية عديدة غير قادرة وغير مهيّأة لمتابعة عمليات الشركات العالمية، وخصوصا الرقمية منها، وبإمكان الإدارات الضريبية في هذه البلدان أن تستفيد من الخدمات المقدّمة من خبراء تقنيّين دوليّين ومن الإطار نفسه ومن مبادرات كمبادرة "مفتّشو الضرائب بلا حدود" وغيرها التي تدعم الإدارات الضريبية للدول ذات الدخل المنخفض. كما تسمح المقوّمات المعنيّة بالشفافية للإطار بالإفصاح عن عديدٍ من عمليّات الفساد والتهرّب والتفادي الضريبي، نتيجة مقوّم التدقيق المستقل في العمليّات الضريبية التي يقدّمها الإطار والمبادرات المرافقة له.
تُشَكِّل العائدات الضريبية مدخولا أساسيا للدول التي تحاول تنويع مداخيلها الاقتصادية، كدول الخليج على سبيل المثال
ثانيًّا، تُشَكِّل العائدات الضريبية مدخولا أساسيا للدول التي تحاول تنويع مداخيلها الاقتصادية، كدول الخليج على سبيل المثال، حيث تشمل رؤيتها للعقود المقبلة عائدات مصدرها أوسع من قطاع النفط والغاز، واستثمارات في قطاعات مختلفة، تشمل، بطبيعة الحال، شركات في قطاعات وذات عمليّات مالية مختلفة، خصوصا الرقمية منها، والتي تجدُر متابعتها.
أخيرًا، يشكّل الإطار فرصة للبلدان العربية للدخول في نقاش عالمي أساسي له تبعات سياسية واقتصادية أساسية، ومشاركتها فرصة لتعزيز التعاون الضريبي، سواء على صعيد مناطقي أو عالمي، وكشف عديد من عمليّات التهرّب والتفادي الضريبي والفساد المنتشرة بشكل واسع في المنطقة. والإطار أيضًا مساحة بالإمكان الاستفادة منها ديبلوماسيًّا لتعزيز العلاقات الدولية.
في نهاية المطاف، الإطار فرصة لقلب موازين القوى العالمية وفرض أولويّات الدول المعنية في ما يخص القوانين الضريبية والاقتصادية العالمية، وفرصة لإجبار الأغنى أن يدفعوا حصّتهم من الضرائب ووضع العدالة الاقتصادية والاجتماعية العالمية أولويّة في المنتديات الدولية.