التنافس على شريعة الغاب دولياً
من تابع تخاصم الولايات المتحدة وروسيا والصين في الأمم المتحدة، الأسبوع الماضي، لا بد أنه خرج بانطباع مفاده أن القوى الثلاث تمارس كذباً بواحاً وهي تعرف أن العالم كله يعلم أنها كاذبة. إنها شريعة الغاب حيث الغلبة للأقوى. ولأن الولايات المتحدة رأس هرم مثلث أضلاع القوى هنا، فإن خطابها ومفرداتها لم تحو دجلاً فحسب، بل وقاحة عزَّ نظيرها، وذلك في تأكيد للمعطى القائل إن القوة تنشئ الحق، لا العكس. أما بقية العالم فعليه الاختيار مع أيٍّ من هذه القوى العظمى يقف، أميركا المهيمنة اليوم، أم الصين الطامحة بمزاحمتها، أم روسيا التي تبدو في طور أفولٍ جديد.
افتتح الرئيس الأميركي، جو بايدن، سباق المزايدات في خطابه أمام الدورة الـ77 للجمعية العامة للأمم المتحدة، حاملاً على روسيا، وعلى رئيسها فلاديمير بوتين شخصياً، على خلفية غزو أوكرانيا. تحدّث كواعظ ورع يلتزم بتعاليم "المبادئ الأساسية لميثاق الأمم المتحدة". كيف لا وقد "غزا عضوٌ دائم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة جاره، وحاول محو دولةٍ ذات سيادة من الخريطة". وطالب بايدن "العالم بأن يرى هذه الأعمال الفظيعة على حقيقتها. يزعم بوتين أنه اضطرّ إلى التحرّك لأن روسيا تعرضت للتهديد. لكن أحدا لم يهدّد روسيا، ولم يسع أحد بخلاف روسيا إلى الصراع". لكن هذا الواعظ الورع الملتزم بتلابيب "المبادئ الأساسية لميثاق الأمم المتحدة" وحرفيتها تناسى عامداً أنه كان أحد الذين صوّتوا، عام 2003، خلال رئاسته لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي، لصالح قرار إدارة جورج بوش الابن غزو العراق. حينها، زعمت واشنطن إن العراق يملك أسلحة دمار شامل تهدّد أمنها وأمن حلفائها. وعندما أثبتت التحقيقات الأممية غير ذلك، فبركت إدارة بوش "أدلّة" مزعومة، وغزت دولة ذات سيادة، من دون تفويض من مجلس الأمن. إلى اليوم لم يعتذر بايدن عن تصويته ذاك. وإلى اليوم لم يبد ندمه عن دفعه، عام 2006، باتجاه تقسيم العراق إلى ثلاثة أقاليم، كردية وسنية وشيعية. وإلى اليوم، لم يطلب الصفح عن مئات الآلاف من المدنيين العراقيين الذين قضوا جرّاء العدوان والحصار، والانتهاكات الأميركية بحق الشعب العراقي.
لربما كان لافروف، موفقاً في توصيف الموقف الأميركي المنافق. لكن ماذا عن سياسة روسيا وجرائمها؟
لا تقف وقاحة بايدن عند ذلك الحد، إذ يطالب أعضاء مجلس الأمن "بما في ذلك الولايات المتحدة بالتمسك بميثاق الأمم المتحدة والدفاع عنه والامتناع عن استخدام حق النقض (الفيتو)، إلا في حالات نادرة وغير عادية، لضمان بقاء المجلس موثوقاً وفعالاً". المفارقة أن هذا لا يتسق مع سلوك واشنطن في مجلس الأمن. حتى شهر مايو/ أيار الماضي كانت روسيا، وسلفها الاتحاد السوفييتي، أكثر من استخدم الفيتو، بمعدل 121 مرة. تليها الولايات المتحدة بمعدل 83 مرة، ثمَّ بريطانيا 29 مرة، فالصين 17 مرة، وأخيراً فرنسا بمعدل 16 مرة. الأنكى أن بايدن أتى في الخطاب على الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين. طبعاً، هو لم يسمه كذلك، بل أحال إلى "دولة إسرائيل اليهودية والديمقراطية" التي من مصلحتها و"أفضل طريقة لضمان أمنها وازدهارها في المستقبل" أن تمنح الفلسطينيين دولة "مُتَفاوَضا" عليها. ولكنه لم يكلف نفسه عناء تذكير العالم أن بلاده استخدمت الفيتو 42 مرّة من أصل 83 لصالح إسرائيل وإجهاضاً لقرارات "الشرعية الدولية". كما لم تتعدّ غضبته من أجل أوكرانيا التي "حشدت الولايات المتحدة مستويات هائلة من المساعدات الأمنية والمساعدات الإنسانية والدعم الاقتصادي المباشر لها بأكثر من 25 مليار دولار حتى الآن"، لتشمل حقّ الفلسطينيين بالعيش بكرامة وحرية على أرضهم وفي دولة مستقلة ذات سيادة تعترف بها 138 دولة عضواً في الأمم المتحدة (71.5% من الأعضاء). فقط تذكّر أن 141 دولة في الجمعية العامة للأمم المتحدة دانت غزو روسيا أوكرانيا وعدَّ ذلك تعبيراً عن "الشرعية الدولية".
لربما كان وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، موفقاً في توصيف الموقف الأميركي المنافق. في خطابه أمام ذات الدورة للجمعية العمومية، قال إن الولايات المتحدة "تتصرّف (منذ إعلانها النصر في الحرب الباردة) كما لو أن لها حقاً مقدّساً في التصرّف مع الإفلات من العقاب متى وأينما أرادت". واتهم واشنطن بأنها تريد "تحويل العالم بأسره إلى فناءٍ خلفيٍّ تابعٍ لها من خلال عقوبات أحادية غير قانونية تمنع البلدان من الوصول إلى الأدوية واللقاحات والمواد الغذائية، كما رأينا في الحصار المفروض على كوبا". كما ذَكَّرَ بـ"الاعتداءات" الأميركية "في يوغوسلافيا والعراق وليبيا، والتي أودت بحياة مئات الآلاف". مضيفاً: "اذكُروا دولة تدخلت فيها واشنطن بالقوة وتحسنت فيها الحياة"، ليصل إلى استنتاج أن الولايات المتحدة "نصّبت نفسها وكأنها مبعوث الله في الأرض".
ما صراع موسكو وبكين مع واشنطن إلا من أجل نيل جزء أكبر من كعكة انتهاك القيم والمعايير الأخلاقية والقانونية
المشكلة هنا أن لافروف أغفل تاريخ بلاده الدموي والإمبريالي، سواء زمن الاتحاد السوفييتي أم الفيدرالية الروسية. أم هل، يا ترى، نسي العالم جرائم السوفييت في بولندا ودول البلطيق، وفي آسيا الوسطى، وفي أفغانستان والقرم، وجرائم روسيا في الشيشان، واليوم في سورية عبر دعم نظام دكتاتوري طائفي ضد شعبه الذي خرج مطالباً بإسقاطه؟
ينسحب الأمر على ما جاء في خطاب وزير الخارجية الصيني، وانغ يي، الذي قدّم مرافعة "أخلاقية" تدعو إلى التمسك "بالإنصاف ومعارضة التنمّر .. (وضرورة) ممارسة التعدّدية الحقيقية، وتعزيز المساواة بين جميع البلدان، من حيث الحقوق والقواعد والفرص". ما لم يقله يي إن الصين ليست أقلّ ذنباً من أميركا وروسيا، وما تفعله بحق مسلمي الإيغور في إقليم شينجيانغ وتعدّياتها على المياه الإقليمية لدولٍ في بحر الصين الجنوبي ما هي إلا غيض من فيض.
باختصار، ما يحدّد المعايير الأخلاقية و"مبادئ الشرعية الدولية" القوة، وما صراع موسكو وبكين مع واشنطن إلا من أجل نيل جزء أكبر من كعكة انتهاك القيم والمعايير الأخلاقية والقانونية.