التيار الوطني الشيعي
نشرت مواقعُ تابعةٌ للتيار الصدري صورةً لتوقيع مقتدى الصدر تحت عبارة بخطّ يده "التيّار الوطني الشيعي"، من دون مزيد من توضيحات، وسرعان ما اشتعلت مواقع التواصل في العراق بتعليقات وتغريدات (وحتى مقالات) في محاولة لتحليل الصورة، التي فهمت عموماً أنّها إعلان عن عودة النشاط السياسي للتيّار الصدري.
شرّقت التعليقات المؤيدة والمعترضة وغرّبت، وبعضها سخرت من اجتماع الوصف المذهبي مع الوطني. ولكن من يحاول فهم المنطق الداخلي للأشياء سيعرف أنّه في حال كان هذا المسمّى الجديد إعلان عودة النشاط السياسي للصدر أو التجهيز للانتخابات النيابية المقبلة، فإنّ المُسمّيات لا تغيّر بشكلٍ حادٍّ من التركيبة الداخلية للتيارات السياسية الموجودة، ومنها التيّار الصدري، ولا تشي التسمية الجديدة باختلافٍ في توجّهات هذا التيّار الأساسية والمعروفة. الأكثر وضوحاً فيها أنّها رسالة إلى الغرماء الذين ينشطون في المساحة السياسية الاجتماعية نفسها للتيار الصدري، وهم: أفرقاء الإطار التنسيقي الشيعي. إنّه ببساطة، وبعيداً عن التناقضات اللغوية الظاهرية، يريد أن يقول: أنا شيعي، ولكنّي وطني، ولست مثلكم أدين بالولاء لدولة أخرى غير العراق.
هل هناك طرف سياسي في العراق لا يدين بالولاء لدولة خارجية أو على الأقل لا يتأثر بضغوطها؟ لا يمكن تأكيد ذلك، ولكن هناك أطرافاً "تعلن" هذا الولاء والتأييد بشكل صريح، وفجّ أحياناً، ولا تحاول التغطية عليه. وما بين الحدّين (الرفض والولاء) هناك مساحة ضبابية تتقاطع فيها أشكال مختلفة من الولاء والتخادم مع دول عديدة، أبرزها إيران وأميركا. بشكل عام، قد يفسّر الفاعل السياسي العراقي اليوم أنّ "الوطنية" تعني الاعتراف بالظروف الواقعية التي تحيط بالعراق، وأنّ عليه ألّا يدفع إلى التصادم مع الدول المؤثرة، وأن يحاول اللعب معها في مساحة "المصالح المشتركة"، مع التفكير بتلك الاستراتيجيات التي تخفّف بالتدريج من الاعتماد على دولةٍ بعينها من دون أخرى، في الأمن والاقتصاد ودعم النظام السياسي. وسيتقاطع هذا كلّه، بالتأكيد، مع مبدأ تسخير مصالح البلد ومقدراته للحاجات الأمنية والاقتصادية لدولة أخرى، وتلقّي الأوامر من هذه الدولة، والخضوع بشكل كامل لتصوّرها الخاص عن إدارة الصراع الإقليمي والدولي الذي يُلبّي مصالحها هي لا مصالح الدول الخاضعة لها.
يتقاطع هذا التصور البراغماتي للوطنية مع المحمولات الأيديولوجية والعقائدية لغالبية التيّارات السياسية الشيعية، وإن صحّ القول إنّ غالبية هذه التيّارات لم تنفّذ تصوراتها العقائدية في سلوكها السياسي على مدى العشرين سنة الماضية، واتخذت هذه التصورات مُجرّد مظلّة وغطاء لإدارة مصالحها الضيّقة، فإنّها تبقى تصورات حاكمة على الفضاء العام، الاجتماعي والسياسي، وتساهم في تضليل الوعي العام وحرفه عن المصالح الوطنية العليا. يتجلّى هذا التضليل بشكل واضح في التخوين المعتاد والاتهام بالانحراف عن العقيدة ضدّ كلّ من ينتقد سلوك الإسلام السياسي الشيعي. فهناك تصوّر حاكم عن الشيعية السياسية يُحدّد الأدوار المتوقّعة من الفاعل السياسي الشيعي يجب ألّا يغادرها، وإلا كان شيعياً خائناً أو "غير شيعي".
وجّهت هذه "الحاكمية الشيعية" أسلحتها السياسية والإعلامية والدعائية، منذ تظاهرات أكتوبر/ تشرين الأول (2019) على الأقل، بشراسة وعنف ضدّ خصومها داخل المجتمع العراقي الشيعي تحديداً، وارتكبت انتهاكاتٍ عديدة لحقوق الإنسان، وكانت آخر صفحات هذه المواجهة هي مع التيّار الصدري، لأنّه أراد تشكيل كتلة برلمانية من بعض الشيعة (التيّار الصدري)، وبعض الأكراد (الحزب الديمقراطي الكردستاني)، وبعض السُنّة (تحالف السيادة)، عقب انتخابات أكتوبر (2021). لو كان لهذا التحالف، الذي فشل ثمّ قاد التيّار الصدري إلى الانسحاب من البرلمان والعمل السياسي بالمجمل، أن يتحقّق لأبتعد خطوة عن التقسيمات الطائفية السياسية التي حكمت العمل السياسي في العراق منذ 2003. حيث يكون الجميع جزءاً من الحكومة، فهنا ستكون كتلتان؛ كتلة تُشكّل الحكومة وكتلة معارضة، وكلا الكتلتين تضمّان أطيافاً مذهبية وعرقية متنوّعة.
على الأغلب، في حال عاد التيّار الصدري إلى النشاط السياسي، وكانت هناك انتخابات برلمانية مبكّرة، من المتوقع أن يعيد الصدر، وبسهولة، إنشاء تحالفاته السياسية السابقة. ولكن، كي يضمن مشاركةً أكبر للناخبين، قياساً بالانتخابات السابقة الضعيفة، عليه أن يُصفّي الأجواء مع الأطياف المدنية وغير الإسلامية، ويرأب الصدوع التي حصلت بسبب "تظاهرات تشرين" ومشاركة الصدريين في قمعها، وأن يقوم بمراجعات جدّية لما حصل في السنوات السابقة، وينفتح على رؤى الوطنيين وتصوّراتهم خارج الأطر العقائدية والمذهبية.