الثورة التونسية المتشائلة
يختلف التونسيون، وهم يحيون ذكرى اندلاع ثورتهم، بشأن تاريخ الاحتفال بها بين موعد حرق محمد البوعزيزي نفسه في سيدي بوزيد في 17 ديسمبر/كانون الأول 2010 وتاريخ رحيل رأس النظام السابق، زين العابدين بن علي، إلى منفاه في السعودية في 14 يناير/كانون الثاني 2011. ويختلفون أيضا في تقييمهم منجز الثورة، وما تحقق لهم بعد عشر سنوات من الشعارات والوعود المتواترة التي ما فتئ يطلقها الساسة من أحزاب وحكومات.
في الذكرى العاشرة للثورة، وعلى منوال سابقاتها، تمتزج أحلام البدايات وتطلعاتها مع تكرار الخيبات، ليظل السؤال: ماذا جنت تونس من هذه الثورة؟ ماذا بقي منها؟ وقد "حادت عن مسارها" كما يرى بعضهم، لتمضي في الاتجاه المعاكس داخلةً قفص الاتهام، فيما يرى آخرون أن الثورة التونسية كانت سببا في التحوّل إلى مشروع البناء المؤسساتي الدستوري، في إطارٍ يحفظ مكتسب الحرّيات الفردية والجماعية، الفكرية والسياسية. ولكن المنجز الاقتصادي والاجتماعي لا يزال ضعيفا، بالنظر إلى ارتفاع سقف الطموحات والمطلبية الاجتماعية، خصوصا في المناطق ذات الأوضاع الهشّة وبين الفئات الاجتماعية الضعيفة التي تشهد تصعيدا لافتا للاحتجاجات والاعتصامات، وانفلاتات أعاقت السير العادي للمرفق العام، وعطّلت مصالح المواطنين، وأضرّت سلطة الدولة المركزية وهيبتها.
يرفع أصحاب هذه المروية من المتشائمين والمشكّكين يافطة "ليتها لم تقع، وماذا جنينا منها"، متكئين على ما يحدث من هذه الانفلاتات والاحتجاجات، وما رافقها من ارتفاع نسبة البطالة والفقر، واستحالة العيش بكرامة وأمان، في ظل فشل النخب السياسية في تحسين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للمواطن الذي رفع شعار "خبز، حرية، كرامة وطنية".
تدهور الاقتصاد، وتغوّلت الدولة في نفق المديونية، بارتفاع الدين العام إلى نسبة 95% بين عامي 2010 و2020، والبطالة من 12% قبل الثورة إلى 18%
ويستند منتقدو الثورة من التونسيين، نخبا وشرائح شعبية، على أن ما طالبت به هذه الشرائح العريضة من كرامة وتشغيل وتنمية لم يتحقق، إذ ينطق الواقع بعكس ذلك، حيث زاد الوضع سوءا، وزاد الاقتصاد تدهورا، والنمو انحدارا، لتتغوّل الدولة في نفق المديونية الخطيرة، بارتفاع الدين العام إلى نسبة 95% بين عامي 2010 و2020، والبطالة من 12% قبل الثورة إلى 18% حاليا وطنيا، وأكثر من 30% في الجهات الداخلية. ولم تتعدّ نسبة النمو في سنوات الثورة 2% بعد أن كانت تبلغ في المتوسط 4.7% قبل سنة 2010، وتصل في العالم الحالي إلى 7.3% سلبي. وارتفع التضخم وزاد العجز التجاري، لتندثر الطبقة الوسطى مقابل توسّع الطبقة الفقيرة، مع بروز أثرياء جدد وفاسدين تغوّلوا على سلطة الدولة ومؤسساتها، لتتبوأ تونس المرتبة السادسة عربيا و74 عالميا في مؤشّر الفساد العالمي للعام 2019! وتراجعت نسب التفاؤل والثقة في المسار الثوري، وعدم الرضا عن السياسيين، برلمانا وأحزابا وحكومات، فبعد عشر سنوات من الثورة، لا تزال المسألة الاجتماعية، على الرغم من دورها المركزي في إطاحة رأس النظام السابق، تلاحق منجزات الثورة. ففي 2016 كان عدد التحرّكات الاجتماعية في حدود 8713 ليرتفع سنة 2017 إلى حدود 10452، وتكون سنة 2018 أقل من النسبة التي سبقتها، 9356 تحرّكا، لتحافظ على النسق نفسه خلال السنة المنقضية، حيث سجّلت 9091 تحرّكا.
وزادت الوضع الاجتماعي تعقيدا، على الرغم من جهود الإصلاح ومقارباته على مستوى الصناديق الاجتماعية، والحد من الفقر ومحاربة الأمية، وغيرها، أزمة جائحة كورونا وتداعياتها التي تسببت في فقدان آلاف من مواطن الشغل في القطاع الخاص، وكشفت، في الوقت نفسه، حجم الهشاشة لأكثر من 1.694000 تونسي وتونسية يعيشون تحت خط الفقر، منهم 321.000 يعيشون فقرا مدقعا.
وفي سياقات جدل اختلاف التونسيين، يذهب متفائلون إلى تغييب المنجز الثوري عن علم أو جهل، خصوصا في علاقةٍ بالمطالب الاجتماعية التي عجزت الحكومات المتعاقبة عن تحقيق جزء كبير منها. وبغض النظر عن سقوط وسائل ومؤسسات إعلامية مدفوعة بأجندات سياسية ومالية "في ترذيل الثورة ومكاسبها وكل ما يمت لها بصلة"، فلا يمكن أن يحجب ذلك أن الثورة حققت الكثير، وهو ما سيبرز في المستقبل، عبر بناء تراكمي وكمي، تبعا لدينامية الثورات وعلاقتها بالزمن. لقد أجهزت الثورة، في نظر هؤلاء، على سرديات أكثر من نصف قرن من ثقافة "تقديس الزعيم الأوحد" و"سيد الأسياد" و"المجاهد الأكبر" و"صانع التغيير" و"حامي الحمى والدين" و"ابن تونس البار"، وغيرها من مدحيات ومقولات أسّست لثقافةٍ انتهازيةٍ حفرت في المخيال الجمعي للتونسيين، ودُفعت أموال طائلة لتكريسها ونشرها محليا وإقليميا.
طوت الثورة صفحة الاستبداد. هذه مؤسّسة ثقافة شعبية جديدة، قوامها حرية التعبير والتفكير، والانتماء للوطن قبل الأشخاص والزعامات، وأعادت روح المبادرة للنخب بمختلف أنواعها... وتأسيسا على هذا، وتجاوزا لجدلية التفاؤل والتشاؤم، يمكن الجزم بأن الثورة التونسية تقف اليوم قلقة أمام احتمالين، إما تشكيك وتردد، فهلاك، أو مراجعة نقدية موضوعية من الجميع للوقوف عند الأخطاء، ووضع سيناريوهات إصلاحها في مستقبل السنوات، فتحوط ونجاة. وهنا يأتي دور الحوار الوطني الذي أبوابه موصدة.