الثورة التونسية ... ضحية من؟
ربما كانت الثورة التونسية، في لحظة ما، أوفر الثورات حظاً وفتحت للمنطقة العربية أملاً في غدٍ ديمقراطي ممكن، ولكنها وصلت، كغيرها، إلى حالة من انسداد الأفق، وعاد الوضع التونسي إلى مربّع النضال والمطالبة بالحقوق والحريات التي ظن كثيرون أنها أصبحت واقعاً لا يمكن التراجع عنه، خصوصاً في ظل دستور 2014 الذي كان محاولة لبسط الحريات، والدفع نحو بناء مجتمع مفتوح يعترف بالتعدّد والاختلاف، فما الذي حصل للثورة التونسية، وجعلها تفقد زخمها وقدرتها على مجاوزة أزماتها؟
في ذكراها الثانية عشرة، ما زالت ثورة الشعب التونسي حية في الأذهان، رغم كل الاضطراب الذي حصل في السنتين الأخيرتين، ومحاولة تغيير بنية النظام السياسي، وإلغاء الدستور التوافقي، وما نتج عنه من ظهور ملامح نظام سلطوي ينفرد بكل الصلاحيات والقرارات. ويدرك المتابع للمسار السياسي التونسي أن ما جرى كان تتويجاً لجملة من الأخطاء المتراكمة التي اقترفتها النخبة السياسية التي أدارت المرحلة السابقة برمتها. ومن المهم أن نوضح أن مفهوم النخبة هنا "لا يعني الصفوة، ولا تشي بالضرورة بالرقي والتحضّر، بل يُشتَق بالمكانة والتأثير"، كما يقول المفكر العربي، عزمي بشارة. ولهذا، فهم التناقضات وتضارب المصالح بين القوى التي سيطرت على المشهد السياسي التونسي، طوال السنوات الماضية هو أمر ضروري لتفسير حالة الأزمة التي وصل إليها الوضع في المرحلة الحالية.
ففي السياق الديمقراطي، توجد جماعات ذات مصالح متباينة وأهداف متصارعة وأولويات مختلفة، وإذا كان بعضها يؤيّد فعلاً استمرار الديمقراطية، ومن مصلحته تعزيزها وتثبيتها خياراً نهائياً لإدارة الشأن العام، فإن قوى أخرى ظلت تستبطن التوجهات السلطوية التي كانت تعيش في ظلها زمن ما قبل الثورة. ولهذا، لم يكن غريباً أن تكون الأحزاب، والقوى المؤيدة للاستبداد، ووريثة نظام الحزب الواحد، كانت الأكثر نشاطاً وفاعلية في ضرب التجربة الديمقراطية، وهو ما رأيناه في أداء البرلمان الشرعي، أخيراً، وطريقة أداء نواب الحزب الحر الدستوري الذي كان يمارس السياسة من دون تبنّي مقولات الديمقراطية التي تفترض أن الخصم السياسي ليس عدواً لدوداً ينبغي قهره أو التخلص منه، ولكنه منافسٌ شرعي من حقه طرح وجهة نظره، والسعي إلى إقناع الناخبين بها. وما زاد في تفاقم الأزمة السياسية انحياز بعض الأحزاب التي شاركت في حكومة إلياس الفخفاخ، مثل التيار الديمقراطي وحركة الشعب، إلى دائرة الخطاب السلطوي الذي يبرّر إيقاف المسار الديمقراطي، بدعوى محاربة الفساد، وهو ما أفضى، في النهاية، إلى صعود الخطاب الشعبوي الذي لا يحمل برامج ولا تصورات، ولا يلتزم بتوجهات محدّدة، وانتهى الأمر بالإجهاز على الدستور والانتخابات الحرّة التي استفاد منها هؤلاء للوصول إلى السلطة.
الانفراد بالحكم لا يعني حلّ الأزمات، وتغييب الأحزاب لن يضمن التأييد الشعبي
كانت الثورة التونسية ضحية العجز عن تعزيز الديمقراطية التي ظلت مهدّدة من أطراف مختلفة في غياب مؤسّسات حقيقية تحميها مثل المحكمة الدستورية، وعدم اكتمال بناء مؤسسات أخرى في الدولة، مثل وجود نظام قضائي مستقل، أو مؤسّسات لتنظيم المصالح، فوجود مراكز قوى بعضها اجتماعي والآخر سياسي، مثل اتحاد الشغل، واتحاد الأعراف، وفوضى الأحزاب السياسية، لم يكن يسير في اتجاه تعزيز الخيار الديمقراطي، بقدر ما مثل عاملاً لمزيد من التفكّك، وإيجاد رأي عام يميل إلى عودة نظام سلطوي ينفرد فيه طرف واحد بالحكم، فجميع القوى التي تحكّمت في المشهد السياسي في السنوات الماضية، عجزت عن الخروج من دائرة المغالبة ومنطق الهيمنة، وصولاً إلى خطاب إلغاء الآخر وإقصائه، رغم الثناء الذي حصلت عليه تجربة الحوار الوطني سنة 2013، والتي أفضت إلى حصول المنظمات التي شاركت فيه على جائزة نوبل للسلام. لقد كان الواقع السياسي مغايراً تماماً لما ظهر للعيان من توافقات، ورغبة في استمرار النظام الديمقراطي، وهو ما انكشف سريعاً إثر الإعلان عن تجميد البرلمان، وتعطيل الدستور في 25 جويلية (يوليو/ تموز) 2021، وما صاحبه من تأييد هذه الجهات القرارات الصادرة. ورغم مراجعة بعض هذه الأطراف مواقفها، فإن هذا لا يغير من حقيقة أنها تستبطن عدم الإيمان بالحل الديمقراطي، واستعدادها لتقبل نظام سلطوي جديد شرط أن تجد مجالاً للشراكة معه.
ربما لم نذكر العوامل الخارجية التي ساهمت في ما وصلت إليه الثورة التونسية، وهي عوامل مهمة ومؤثرة، ولكن، في النهاية، ينبغي محاسبة الأطراف المحلية التي كان لديها الاستعداد للقبول بهذا التدخل، والمساهمة في وأد التجربة الديمقراطية. ورغم كل الصعوبات يظل الأمل قائماً في استعادة المسار الديمقراطي التونسي، في ظل الفشل الاقتصادي والاجتماعي الذي تعانيه البلاد حالياً، والذي كشف أن الانفراد بالحكم لا يعني حلّ الأزمات، وأن تغييب الأحزاب لن يضمن التأييد الشعبي، وهو ما كشفته المقاطعة الواسعة للدورة الأولى من الانتخابات الأخيرة، ويظلّ قرار استئناف مسار التعدّدية والحرية مرهوناً بالخيار الشعبي ووعي النخبة أن الديمقراطية هي الأداة الإجرائية الوحيدة والسليمة لفضّ النزاعات والمشكلات.