الجزائر بين تصحير السُّلطة وعدمية الحراك
بداية، لمن لا يعرف عبارة "تصحير الحياة السّياسية"، فهي تشير إلى الثّقافة السّياسية التي جسّدها الرّئيس الرّاحل عبد العزيز بوتفليقة منذ اعتلائه سُدّة الرّئاسة، في 1999، وكرّسها من خلال تحييد الطّبقة السّياسية وتحجيمها، فقط، في موالاةٍ شكّلها التّحالف الرّئاسي الذي انضمّ إليه جهازا السُّلطة، حزبا جبهة التّحرير والتّجمُّع الوطني الدّيمقراطي، في حين أنّ البقيّة ممّن يرفعون أصواتهم بالمعارضة لسياساته، آنذاك، أُغلقت دونهم المحالات الإعلامية، كما أُغلقت أمامهم قنوات الوصول إلى تمثيلية في المؤسّسات، البرلمان بغرفتيه أو المحليّات (بلديات ومجالس المحافظات).
كان لا بدّ من توضيح تلك العبارة لأنّها تفسّر النّسق الذي يضبط ممارسة السّياسة في الجزائر منذ عقود، ويُحيل على فهم الثّقافة السّياسية السّائدة بشأن الشرعية، الانتخابات واكتساب التمثيلية على مستوى المؤسسات، كون تلك الثلاثية مُكرّسة، وتعيد نفسها، حتى مع الزّعم أنّ ثمّة اتجاها نحو تجديد الممارسة السياسية، مراجعة مضمون الثقافة السّياسية وفرض مسارات الوصول إلى الشرعية جديدة ومبتكرة، بعيدا عن المعتاد والمكرّس، منذ عقود، في البلاد.
هناك غياب لأحزاب وتيارات أيديولوجية من اليمين، الوسط واليسار
تنطلق المقالة من الفكرتين، بغية الحديث عن الحاجة إلى انتخاباتٍ لاستكمال بناء المؤسسات ولكن من خلال منطلقاتٍ لم تتم، من خلالها، مراجعة ما أشير إليه لزاما، لأن ذلك أدعى لإقناع الجزائريين بجدوى المشاركة، من ناحية، وفائدة تلك المؤسّسات بمصداقية الانتخابات والتمثيلية النّاتجة عنها، من ناحية أخرى، لحلّ مشكلاتهم ودفعهم نحو الانخراط، أكثر فأكثر، في الحياة السّياسية، عوض العزوف الذي ما فتئ يبعد الجزائريين عن ممارسة مواطنتهم، من خلال أداة اختيار من يمثّلهم، من القاعدة (المحليات) إلى القمّة.
نصل الآن إلى الخريطة السّياسية الناتجة عن تصحير الحياة السّياسية والحراك، معا، لأنّهما ظاهرتان ساهمتا في صياغة الشّكل الحالي للحياة السياسية، بعمق، إضافة إلى دروس الانتخابات التي شهدتها البلاد، منذ 2019، رئاسيات، تعديل دستوري ثمّ تشريعيات 2020، وهي خريطةٌ لا تكاد تنفكّ عن أربع مسلّمات أصبحت مرادفة لأيّ حديثٍ عن الطّبقة السّياسية وعن السّياسة، ككلّ، في الجزائر، سواء في أخطائها أو في ما ينتظره الجزائريون منها، مستقبلا، لإنجاح مسار التّحوّل نحو الدّيمقراطية.
تشير المسلّمةُ الأولى إلى خبرات الحياة السّياسية، منذ الاستقلال، في 1962، والتّي كانت ولا تزال لصيقةً بجدلية من يمتلك الشّرعية في البلاد من الجهازين: الأمني/ العسكري أم المدني - السّياسي، وهي مسلمة موروثة عن الحرب التّحريرية الكبرى (1954 - 1962)، حيث دار النّقاش حول من له الأولوية، واستمرّ من دون أن تصل الجزائر إلى معادلةٍ تتوازن في ظلّها قوّة كل من الجهازين، وتُمارس، من خلال ذلك كله، الحياة السياسية لكل دوره ولكل مهامه، ولا يتحكم في ذلك إلّا النص الدستوري، القانون الأسمى في البلاد.
تتصّل المسلّمة الثّانية بالثّقافة السّياسية النّاتجة عن الرّغبة في الوصول إلى الشّرعية في إطار الصّراع المذكور، والتي على الجزائريين تعديلها، لتتواءم مع الهدف المنشود المتضمّن الوصول إلى الشّرعية، وفق ما ينصّ عليه الدُّستور التوافقي، وتكرّسه صناديق الانتخابات النّزيهة والشفافة. كانت لتلك الثقافة السياسية المكرّسة، منذ الاستقلال، اليد العليا في بناء المؤسسات، ولكن من دون مضمون المواطنة وما تتضمّنه من وجوب أن يكون الأكفأ/ الأنزه هو من يصل إلى تلك المناصب، سواء بالتّعيين (بالنّسبة للمناصب التّنفيذية) أو بالانتخاب (بالنّسبة للمناصب التمثيلية)، ما أدّى إلى أزماتٍ عديدة، كادت إحداها أن تذهب بالبلاد إلى مستقبل مجهول في أثناء العشرية السّوداء (تسعينيات القرن الماضي)، بعد فشل بناء مسار التّحوّل الدّيمقراطي بخريطة سياسية مستقطبة (إسلامويين - علمانيين)، وعدم تهيئة قاعدة التوازن لقوة كل من الجهازين الأمني/ العسكري والمدني - السّياسي.
تشير عبارة "تصحير الحياة السّياسية" إلى الثّقافة السّياسية التي جسّدها بوتفليقة، منذ اعتلائه سُدّة الرّئاسة في 1999
تشير المسلّمة الثّالثة إلى وجوب التّعلّم من تجربتي انتفاضة 1988 وحراك 2019، قصد الوصول إلى بناء مسار يتفادى الأخطاء (الحياة السياسية المستقطبة)، والعدمية (رفض الدّخول في مسارات سياسية، خريطة طريق للعودة إلى الشّرعية، أو التمثيلية بتسمية قياداتٍ يمكنها أن تكون الممثّلة للحراك في أيّ مسارات للاتّصال بالسُّلطـة والحديث إليها، أيّا كان شكل ذلك الحديث). وهي ثقافة بدأت تترسّخ في العقل السّياسي الجزائري، حيث أنّنا انتقلنا من عشرية سوداء بفضائعها (ما بين 200 ألف قتيل إلى 250 ألفا، وآلاف من المفقودين، إضافة إلى اقتصاد منهك تماما)، إلى حراكٍ استمرّ قرابة عامين، من دون أن يوقع ضحية واحدة أو حتى خرابا في منشآت عمومية، وهو إنجاز ربّما لا تُركّز عليه، كثيرا، الأدبياتُ التي تحدّثت عن حراك 2019. ولكن يمكن أن يشكّل مرتكزا للانطلاق، من خلاله، نحو مسارٍ توافقي قد لا تكون أسُسُه قد ظهرت ونضجت، الآن، لكن مع ما شاهدناه من أزمات في الصيف الذي انقضى، وتكاتف الجزائريين في ما بينهم (الحرائــق والموجة الثالثة لجائحة كورونا)، نكون قد اقتربنا إلى معرفة أن ما تم اختياره من أدواتٍ لإصلاح الأوضاع هو شأن جزائري، ويدار بأدوات جزائرية، لأن الهدف هو الخروج من الأزمة، التوافق على علاج تداعياتها ثم إقرار إجراءات توافقية، أيضا، لبناء المشروع المأمول، وهو الوصول إلى تبوء مكانة القوة الإقليمية في المنطقة.
بمحصّلة المسلمّات الثلاث، تكون المسلّمة الرّابعة نتاج كل هذا العمل من سواعد كل الجزائريين وعقولهم، على الرغم من الأخطاء، غلق المجال الإعلامي، التضييق على الحريات. ولكن بما أن ذلك تمّ على خلفية ما وصلنا إليه، أي الخلاف من دون اللّجوء إلى العنف، فهذا المبتغى يكون قد غيّر شكل الثّقافة السّياسية ومضمونها، ووجّهها نحو قراءة الوضع السياسي، من الآن فصاعدا. بالأدوات الحضارية، ستكون مصداقية التمثيل في الانتخابات، تقديم الكفاءة على غيرها من معايير كانت، في الماضي، هي الأساس في التعيين وفي التمثيل الانتخابي، على مستوى الأحزاب السياسية أو في إطار المجتمع المدني.
ضمور صوت أحزاب تتّخذ من المرجعية الدّينية ركيزة في برامجها هو غياب كان له الأثر في عزوف الجزائريين عن الانتخابات
تشارك المسلّمات الأربع في تصوّر مستقبل الخريطة السّياسية الجزائرية التي، من الأساس، رفضت، وما زالت ترفض، أحزاب السّلطة بل السّلطة، نفسها، عبّرت وتعبّر عن امتعاضها من أدوار لعبتها تلك الأحزاب في عشريتي الرّئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة، وهو ما أنتج هذا العزوف الكبير في الاستحقاقات الانتخابية السّابقة، حيث لم يتجاوز عدد الجزائريين الذين شاركوا فيها الخمس (واحد فقط من أصل خمسة جزائريين شارك، في المتوسّط، في تلك الانتخابات)، خصوصا بين فئة الشّباب، وهو ما تفطّنت له السّلطة، بإقرار المرصد الوطني للمجتمع المدني، مثلا، وإن بمقاربةٍ يجب أن تتغيّر، حيث يتم إقرار شكل تلك الخريطة السياسية ومضمونها، بعيدا عن أدوات التّواصل، التوافق أو حتّى الحديث/ التّشاور، وإن كانت هناك، إلى وقت قريب، عدمية رافضة للتّمثيل والمشاركة في أيّ سياقات سياسية من الحراك، على الرّغم من اقتراح شخصيات وطنية ذات مصداقية بضمانات للتّوسّط، ومنح أي تفاهمات مصداقيتها وسيرها نحو التّجسيد، على أرض الواقع، في الحياة السّياسية.
ممّا يُلاحظ على الخريطة السّياسية، بفعل ما أشير إليه، أنّها لا تحمل معطيات الخرائط السّياسية العادية، أي هناك غياب لأحزاب وتيارات أيديولوجية من اليمين، الوسط واليسار، إضافة، بما أنّنا في بيئة إسلامية، إلى ضمور صوت أحزاب تتّخذ من المرجعية الدّينية ركيزة في برامجها، هو غياب كان له الأثر في عزوف الجزائريين عن الانتخابات. والحالة وليدة التّصحير الذي أتت عليه بداية المقالة، زادته عمقا عدمية الحراك، برفضه كلّ مسارات تسمية ممثّليه، أو القبول بمبادراتٍ توسطت لرأب صدع الخلاف مع السُّلطة.
بما أن الجزائر على مقربة من انتخابات محلية وولائية (انتخاب المجالس الشعبية الولائية/ المحافظات)، فإنّ انعقادها يمهّد، في القريب العاجل، للحاجة الماسّة إليه، لإصلاح منظومة الخريطة السياسية، لتكون المرحلة التي شهدناها، منذ 2019، والمؤسسات الوليدة عنها، ومنها النّص الدُّستوري المُعدّل، مجرّد مضمون قابل للتّوافق/ التّعديل/ المراجعة للانطلاق في إعادة بناء العملية السّياسية التحولية، بما يخدم ميلاد عقل سياسي، وممارسة تليق ببلد يتوق أبناؤه إلى مستقبلٍ كله كرامة.