"الجزيرة" في 18 عاماً
من منجزاتٍ لقناة الجزيرة تستحقُّ التنويه، والإعجاب ربما، أَنها أحدثت لدى حزمةٍ واسعةٍ من معلقين في الصحافات والتلفزات العربية "متلازمةً" اسمُها الجزيرة، إذ ينقطع هؤلاء، وبدأبٍ يُحسدون عليه، وبروحٍ كفاحية، طريفةٍ أَحياناً، للتشنيع على هذه القناة الشهيرة، و"فضح أكاذيبها" لئلا تنطلي على الناس، و"لكشف" ارتباطاتها "الإخوانية" و"الإسرائيلية". ومن دون أيّ ذرة حياء، أو شيء من الأخلاق، ويحدث أن يعمد كثيرون من هؤلاء إلى سبّ مذيعي "الجزيرة" التي تعمل على "تخريب" الوعي العربي و"تجريفه"، بحسب فصيحٍ منهم. ولأن هؤلاء لا يملكون ألسنتهم، ولا أقلامهم، وغالباً ما ينطقون باسم أجهزةٍ في بلدانهم وأنظمتهم، كان يمكن الانتباه إلى ما يثرثرون ويكتبون، لو بادر أيٌّ منهم إلى دعوة حكومات بلادهم وحكومات الدول التي يوالونها، وينشطون في الدفاع بحميّةٍ باهرةٍ عنها، إلى أن تُيسر إعلاماً آخر، يُنافس "الجزيرة"، ويخلخل موقعها في الفضاء العام. فليس هناك أسعد عند المواطن العربي، لو عثر على فضائياتٍ ذات مهنية وسوية إعلامية راقية، وتتمتع بحيز مهم من الاستقلالية والحرية، فتقدّم للنظارة العرب وجبات من الإخبار والتثقيف والجدل، تنحاز إلى هموم العربي في كل مطرح وأشواقه إلى حياة كريمة.
ثمّة ملاحظاتٌ ومؤاخذات على أداء "الجزيرة"، في غير شأن وموضوع، لكنها، لدى كاتب هذه السطور وغيره، تصدر عن انحيازٍ إلى خياراتٍ غير قليلة لدى هذه الشاشة، وعن قناعةٍ صارت مؤكدة، موجزها أن الإعلام العربي، بعد إطلاق "الجزيرة"، غيرُه قبلها، قبل ثمانية عشر عاماً. ومن أسفٍ كبير، أنك على ما يتوفر لديك من ملاحظاتٍ على هذه الفضائية، المثيرة والمقلقة، أنك، بالكاد، تعثر على ما يُقنعك في غيرها، مع كل الاحترام لجهودٍ طيبة يُبادر إليها زملاء في غير فضائيةٍ وتلفزة عربية، في برامج جيدة، غير أن المشار إليه، هنا، يتعلق بالروحية العامة والتسييس البائس والانحيازات الصارخة، وهذه كلها وغيرها، تصادفها على هذه الشاشات بصيغ دعائية ومتهافتة، وأحياناً مهينة للعقل. وربما يكون من دواعي إعجاب غير هيّن بفضائية الجزيرة (يقتصر الحديث هنا عن الجزيرة الإخبارية العربية)، أن انحيازاتها وتوجهاتها، غالباً، ما تقدّم للمشاهدين بكفاءةٍ ظاهرة، وبمقادير من الإتقان، قد تورّطك في قبول المنطق العام للقناة، الأمر الذي يعوز أخرياتٍ عديداتٍ من الفضائيات العربية.
ببساطة، ومن دون لف أو دوران، من لا تعجبه "الجزيرة"، فليصنع أحسن منها، أما أن تشتم شعوباً، بكل قلة أدب، في تلفزاتك، ثم تحدثني عن "تخريب" هذه القناة في العالم العربي، فهذا مردود عليك. كن مع عبد الفتاح السيسي أو مع العفاريت الزرق، ولكن، لا يحق لك أن تكون بذيئاً أمام الجمهور. ولأن أمرك هكذا، ولأن فضائياتٍ تحبذها ما زالت تقيم في ملكوت الحمد والتسبيح باسم هذا الملك أو ذاك الأمير، وباسم هذا الجنرال وذاك الغفير، فإننا سنلوذ بـ"الجزيرة"، ونحن على معرفة بالذي يعجبنا فيها، وهو كثير، والذي لا يعجبنا. هذه المسألة، على بساطتها، هي ما غابت في الموسم الكلامي الذي استجد، أخيراً، عن "الجزيرة" بمناسبة عيدها الثامن عشر. ولأن هذه القناة المزعجة والمربكة شبعت مديحاً، فإنه كان مأمولاً، في المناسبة، أن تُطرح اجتهادات في شأن تثمير المكانة الخاصة التي تحوزها الفضائية الإخبارية الأولى في الخريطة الإعلامية العربية، من أجل مزيد من التنويع في برامجها، وتوفير مقادير أعلى من مواد الثقافة والفنون فيها. والتخفف، ما أمكن، من ثقل الروح النضالية فيها في غير ملف (المصري مثلاً)، وتعريف بعض المذيعين بأن نجوميتهم لا تجيز لهم الطاووسية التي يبدون عليها على الشاشة، فتوهمهم بأنهم صناع رأي وقادة جماهير... وثمة غير هذه الأمور ممّا في الوسع حكيها طبعاً.