الجنرال محمّد أبو سلميّة
اعتقلت إسرائيل محمّد أبو سلمية يوم 23 من نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري. أنزلته من سيارة منظمّة الصحة العالمية التي كانت ترافق مئات الجرحى الخارجين من مستشفى الشفاء في غزّة بعد إخلائه، واقتادته مع خمسة آخرين من الكوادر الطبّية إلى جهةٍ ظلّت مجهولة عدّة ساعات، قبل أن تعترف بنقله إلى التحقيق لدى الوحدة 504 التابعة للمخابرات العسكرية وجهاز الأمن العام (الشاباك). وليلة الاثنين الماضي (27 نوفمبر)، أعلن الجيش الإسرائيلي تمديد اعتقاله 45 يوماً على ذمّة التحقيق.
أبو سلميّة، وكثيرون لا يعرفونه، ومن يعرفه سينساه ربما مع التطورات المتسارعة والكثيرة للعدوان الوحشي على غزّة، هو مدير مستشفى الشفاء في قطاع غزّة، وهو واحد من بين نحو ستة آلاف طبيب كانوا جيشاً رديفاً بكل ما في الكلمة من معنى للمقاومة الغزّية، وسطّروا بطولات أسطورية لا يعرفها كثيرون. عملوا في ظروف بالغة التعقيد والصعوبة والبدائية، وأنقذوا حيوات مئات المصابين الغزّيين، بأدوات قليلة وإمكانات لا تكاد تُذكر، وفي ظروف عمل قاسية جداً، حيث القصف لم يتوقّف في محيط المستشفيات التي كانوا يعملون فيها، وخصوصاً مستشفى الشفاء، فما توقّفوا بدورهم عن العمل ساعة واحدة عدّة أسابيع، بلا نوم ولا ماء صالح للشرب ولا طعام ولا أمكنة صالحة للنوم. وكان محمد أبو سلميّة الجنرال الذي يدير فريقه ومستشفاه للصمود، وقد صمد أمام هجماتٍ بالغة البشاعة والدناءة، انتهت بالتدمير في المستشفى وإجبار مرضاه وكادره الطبي على إخلائه.
عندما نصف أبو سلميّة بالجنرال فلأنه كذلك، فهناك أبو عبيدة وهناك أبو سلميّة، في ثنائية ميّزت وتميّز العمل الفلسطيني المقاوم بالبندقية والمبضع. بالبدلة الكاكية العسكرية والروب الطبي الأبيض، وهو يدافع عن الوجود الفلسطيني نفسه الذي تعرّض ويتعرّض لحرب إبادةٍ حقيقية، فصمد بفضل بطولة آلاف الجنود المجهولين الذين كانت الشهادة كلمة سرّهم للحفاظ رمزياً على سلالة آخر شعبٍ في الأرض يرزح تحت نير الاحتلال، ويُراد له أن يُباد وألا يقاوم، لكنه أبى فنجا وانتصر.
قدّم طبيب الترميم الفلسطيني/ البريطاني غسان أبو ستّة، (نجل المؤرّخ سلمان أبو ستة) شهادته عما تعرّض له القطاع الطبي في غزّة خلال عمله هناك، ومما ذكره في مؤتمر صحافي قبل أيام المركز الدولي للعدالة للفلسطينيين في لندن، أن نحو 140 من الأطباء والممرّضين والمسعفين قُتلوا خلال قيامهم بعملهم، وكثيرا منهم وجد نفسه يقف عاجزاً وبلا أي حيلةٍ أمام جثامين أحبابهم من أطفال وذوي قربي. وهي بطولاتٌ صامتةٌ كشفت عن المعدن الأصيل الذي لا يصدأ، الذي يضيء ويتلألأ في عتمة الأحداث الكبرى والمفصلية، الذي يكون ذهباً إذا شئت، وفولاذاً إذا شاءت الأحداث، لشعبٍ لم يتوقّف عن المقاومة عن وجوده وأرضه منذ قرن أو يزيد. ومن بين هؤلاء الطبيب أبو ستّة نفسه الذي ترك دعة العيش وأمانه في بريطانيا والتحق بمستشفيات غزّة في الأيام الاولى من بدء العدوان غير المسبوق في وحشيّته.
عاد أبو ستة إلى لندن ليواصل نضاله هناك من أجل شعبه، وهو من عائلة فلسطينية عريقة لم تتوقّف يوماً عن الدفاع عن شعبها، أما أبو سلميّة فبقي في الخندق، جنرالاً حقيقياً أَلِف متابعو الفضائيات صوتَه المتهدج وهو يضعهم في صورة تهديدات إسرائيل له ولفريقه ولمستشفى الشفاء الذي أطلقت إسرائيل فرية أن حركة حماس أنشأت لها تحته مقرّا سرّيا، وأنه يشكّل بالتالي درعاً بشرياً لقيادتها يحول دون الوصول إليها. وكثيراً ما كان أبو سلميّة يُسأل ماذا سيفعل أمام هذه التهديدات، وفي كل مرّة كان جوابه أنه وفريقه باقون، وأنهم لن يتركوا جرحاهم أبداً، فإذا عاشوا عشنا، وإذا ماتوا متنا. وكان الرجل وفيّاً وعلى عهده، فاعتقل بينما كان يرافق جرحاه الذي أُجبروا على الانتقال مشياً على الأقدام إلى جنوبي القطاع.
لن ينسى الفلسطينيون واحداً من أهم جنرالاتهم، محمد أبو سلميّة، وعلى المنظمّات الدولية، وخصوصاً منظمّة الصحة العالمية، التي خرج أبو سلميّة والجرحى من مستشفى الشفاء تحت ما يفترض أن تكون حمايتها، ألا تتوقّف عن إثارة قضية اعتقاله، ومن قبلها قضية قصف مستشفيات قطاع غزّة باعتبارها جرائم حرب، فتلك مسؤوليّتها وهذا هو امتحانها.