الجهد الفرنسي ولقاء الدوحة بشأن لبنان
أمضى المبعوث الخاص للرئيس الفرنسي إلى بيروت، جان إيف لودريان، يومين بحثاً عن حلول لأزمة الشغور والفراغ في الرئاسة الأولى لدى الأطراف الداخلية اللبنانية من دون أيّة نتيجة. لم يحمل معه إلى الأطراف اللبنانية المُتخندقة في مواجهة بعضها أيّ اسم يمكن أن يكون توافقياً، اكتفى بإشارات فهم الجميع منها أنّ فرنسا التّي قدّمت نفسها وسيطاً بين متخاصمين تراجعت خطوة إلى الوراء بعدما كانت تؤيد مرشّح الثنائي الشيعي (أمل وحزب الله) سليمان فرنجية، وباتت على قناعة أنّ الحلّ بخيار أكثر جدّية يكون من خارج المطروح حالياً، غير أنّ الضيف الفرنسي لم يصرّح بذلك؛ أراد أن يُبقي على خيط علاقة وصلة مع الثنائي ضماناً لمصالح فرنسية في لبنان وفي عموم المنطقة، خصوصا مع إيران.
وكانت الدوحة قد استضافت لقاءً خماسياً ضمّ إلى قطر كلّاً من السعودية، مصر، فرنسا والولايات المتحدة، وقد بحث اللقاء في الموضوع اللبناني بشكل أساسي لناحية إنهاء الشغور الرئاسي الذي يخلّف وراءه أزماتٍ تتناسل وتتكاثر يوماً بعد يوم، وأقربها أزمة حاكمية مصرف لبنان بعد انتهاء ولاية الحاكم الحالي، رياض سلامة (31 يوليو/ تموز)، وهو ما يُدخل البلد في دوّامات من الأزمات التي قد يكون النظام الحالي القائم على التوازن وتأمين الاستقرار النسبي على الرغم من علّاته الكثيرة والعديدة.
حثّ اللقاء الخماسي المسؤولين اللبنانيين على التحلّي بالمسؤولية والقيام بالواجب وانتخاب رئيس وإجراء إصلاحات، ولكن هذا الطلب لم يجد أيّة آذان صاغية في بيروت؛ مناشدة أو مطالبة هذه الطبقة بات كالضرب في الميت. وبالتالي، فإنّها لا تتحرّك إلّا إذا شعرت بالخطر على مصالحها المباشرة. حذّر اللقاء الخماسي من إجراءات عقابية بحق المعرقلين، ففهمت الأطراف الداخلية في لبنان أنّ الآخر المقابل هو المعني بتلك الإجراءات والعقوبات المحتملة. والحقيقة أنّ المتضرّر الأول من أيّة عقوبات جديدة محتملة قد يكون الشعب اللبناني الذي بات أسير تلك الطبقة وحبيس قراراتها وتغذيتها الخطاب التحريضي التعبوي الذي يستهدف استنهاض المكوّنات اللبنانية طائفياً بعيداً عن أيّة مصلحة وطنية حقيقية، وهو ما تحرص عليه وتستفيد منه هذه الطبقة الحاكمة والمتحكّمة.
استمرار الدوّامة كما لو أنّ لبنان دخل ثقباً أسود لا قرار له، فيما بعض أطراف الداخل لا يعنيها سوى مشاريعها الخاصة
يرخي ذلك كله بظلال من الشكّ بشأن إمكانية الخروج من الأزمة والمأزق وانتخاب رئيس في وقت قريب يشكّل مدخلاً لبحث وحلّ بقية الأزمات، بل كلها، ما يعني استمرار الدوّامة كما لو أنّ لبنان دخل ثقباً أسود لا قرار له، فيما بعض أطراف الداخل لا يعنيها سوى مشاريعها الخاصة التي تجد فيها ملاذاً لمصالحها وطموحاتها الطائفية والمذهبية والشخصية الضيّقة، بينما لا يرى الآخرون في لبنان سوى شركة يجب نهبها وسرقة خيراتها، ولتصل الأمور بعد ذلك إلى حيث يمكن أن تصل؛ وبعضهم الآخر يرى في لبنان ساحة لخدمة أجندات مختلفة، ليس للبنانيين فيها لا ناقة ولا جمل. في حين صار بعض العرب أكثر حرصاً وغيرة على لبنان ومصلحته من بعض اللبنانيين أحياناً، ولعلّ في الحراك الذي يقوم به القطريون تدويراً للزوايا وبحثاً عن مخارج مع كلّ الأطراف الداخلية، وحتى الخارجية الإقليمية أحياناً، خير دليل على ذلك.
وبالعودة إلى الحلّ الممكن في ظلّ الظروف القائمة، أرسل الضيف الفرنسي، لودريان، رسائل حاول فيها جسّ النبض اللبناني في إمكانية الدعوة إلى حوار وطني شامل يتناول كلّ شيء، غير أنّه جوبه بالرفض، ابتداء من القوى المسيحية التي تعرف أنّ أيّ حوار من هذا النوع سيعني تفاقم الأزمة ودفع الأثمان وصولاً إلى أية نتائج في المستقبل، ولذلك أعلنت تمسّكها بالدستور ووثيقة الوفاق الوطني (اتفاق الطائف)، وشاركها في هذا القلق مختلف القوى السنّية من تجاوز الدستور ووثيقة الوفاق الوطني ورفضها أيّ تعديل أو تغيير فيها حالياً، وهو الأمر الذي أعلنه وليد جنبلاط. بمعنى آخر، رفضت هذه القوى الدعوة الفرنسية إلى حوار مفتوح، وقد كان لهذه المواقف وقْع على المبادرة الفرنسية التي حاول لودريان تسويقها، فما كان منه إلا أن طرح ما يشبه حلقات النقاش حول المخرج من الأزمة، فكانت شروط القوى المحلية أن يكون النقاش حول انتخاب الرئيس فقط مع التأكيد على أنّ الأولوية هي لقيام المؤسسات الدستورية (المجلس النيابي) بدوره في هذا السياق.
بات الوضع في لبنان أكثر تعقيداً، خصوصا أنّ الشعور تنامى لدى شرائح كثيرة في لبنان أنّ الموفد الفرنسي أكثر انحيازاً لصالح طرف على حساب طرف آخر ضماناً لمصالح خاصة، وهو ما يستدعي تداركاً في ظلّ الانهيار المتواصل والأزمات المتناسلة والعناد اللبناني "الفاضي"، فهل يبادر القطريون إلى استدراك الفشل الفرنسي، ويؤمّنون مخرجاً يكون محل قبول الأطراف اللبنانية في ضوء الثقة السابقة لهذه الأطراف بالتجارب القطرية؟