الجوهر والمظهر في صراع الهويّات
الانفراد بالسلطة والثروة هو مرتكز التناقض الرئيس وجوهره في أي مجتمع، حتى وإن اتخذّ الأمر في كثير من الحالات والمنعطفات التاريخية مظاهر تناقضات أخرى، ذات طابع مذهبي أو عرقي أو طائفي أو جهوي، إلخ. وفي حالاتٍ كثيرة، يجري الدفع بهذه التناقضات إلى موقع الصدارة للتمويه على جوهر التناقض، أو الصراع، حيث يجري حشد الحشود في صراعاتٍ أبعد ما تكون عن مصالحها الحقيقية، وأن تُدخل القاعدة الاجتماعية ذات المصلحة في التغيير في تناقضاتٍ ثانويةٍ بين مُكوّناتها، مُفتعلة في حالاتٍ كثيرة، تبعدها أو تحرفها عن التصدّي للتناقض الأساس في المجتمع، الذي محوره كسر احتكار النخبة المهيمنة على السلطة والثروة، بتحقيق التوزيع العادل للثروات وإشراك الشعب في اتخاذ القرار عبر آليات ديمقراطية حقيقية، وليست صورية أو عديمة الصلاحية.
لا يمكن أن يُفهم أيّ تناقض، أو صراع، بين الهويّات الثقافية أو الدينية أو ما هو في حكمهما، بمعزل عن جذره الاجتماعي الكامن في صراع المصالح، حيث من مصلحة أصحاب هذه المصالح تأجيج المشاعر الطائفية والمذهبية والعِرقية لصرف الأنظار عن التناقض الرئيسي في المجتمع، وهو أمرٌ، رغم وضوحه، يبدو شديد التعقيد، حين يُراد شرحه. الجماهير أميل إلى أن تتلقّى الرسالة التعبوية السهلة، بينما لا تُبدي الحماسة ذاتها لفهم الظواهر المعقدة عبر أدوات التحليل، فإذا كانت التعدّدية الطائفية، على سبيل المثال، معطىً تاريخياً موضوعياً لا سبيل لتجاوزه، علينا أن نتعايش معه بروح التسامح والعيش المشترك، فإن الطائفية السياسية ممارسة تلجأ إليها قوى في الدولة والمجتمع لتحقيق مآربها ومصالحها.
الجذر الاجتماعي لصراع الهويّات أو تنافرها لا ينفي أن هذا الصراع، أو التنافر، يصبح، مع الوقت، ظاهرة على قدرٍ كبير من الاستقلالية بحاجة إلى الوقوف أمامها، فهذا التنافر يمرّ بحالات مختلفة، يخبو حيناً حتى لا نكاد أن نراه ظاهراً، ونحسب أننا قد تجاوزناه، وأنه أصبح في ذمّة الماضي، حتى نفاجأ، في حينٍ آخر، بأواره وقد استعر من جديد، حين يأتي باعثٌ أو محرضٌ عليه.
تبدو مفردة التمييز تحديداً المدخل الصحيح لمقاربة هذه المسألة، فحين تنجح المجتمعات في التغلب على هذا التمييز، بصوره كافة، بين مواطنيها، وتؤمّن الحقوق المتكافئة للجميع، فإنها تنجح أيضاً في خفض مستوى التوتّرات، الحادّة أو الخفية، إلى أدنى مستوى، ويحدُث العكس تماماً، حدّ بلوغ الانفجارات الدامية، حين تخفق في ذلك.
في التناقض القائم في مجتمعاتنا، الذي هو تناقض اجتماعي بين القلة التي تستأثر بالثروات والأغلبية الساحقة من الناس المحرومة شروطَ العيش الحر الكريم، وهو التناقض الذي كان باعث الانتفاضات الشعبية ومحرّكها في ما مضى، ثم بقدرة قادر، جرى تحويل الأمر إلى صراعات بين المذاهب والطوائف.
لا يمكن إغفال وجود هويّات، أو فلنقل انتماءات توخيّاً للدقة، متعدّدة للفرد الواحد، وبالتالي، للفئات الاجتماعية المختلفة. وفي حالٍ مثل هذه، على الدولة ومؤسّسات التعليم والتنشئة العمل على دمج هذه الانتماءات المتنوعة من أجل الوصول إلى هويّة مشتركة تُمثل مصالح الجماعة بانتماءاتها المختلفة. والهويّة المشتركة لا تعني إزالة الانتماءات الفرعية أو الجانبية، لأنّها في ظروف مجتمعاتنا اليوم انتماءاتٌ أصيلةٌ ذات طبيعة ثقافية راسخة في طبقات الوجدان، بحيث تستحيل إزالتها بقرار أو برغبة، فالأمر ناشئٌ، من بين عوامل أخرى، إلى حقيقة تعايش بنى اجتماعية مختلفة أو متنوّعة في المجتمع الواحد، ينتسب بعضُها إلى مراحل تاريخية سابقة. وقد تضعُف بعض هذه البنى، أو تتآكل صلابتها في الواقع، لكن تأثيرها، بوصفها مكوّنات ثقافية، يظل وطيداً وقوياً وفعّالاً في الأذهان. وبالتالي، فإنها قادرة على الاستمرار في تقديم هويّاتها الثقافية الفرعية، متحاشية الانصهار في بوتقةٍ واحدة داخل المجتمع، لا بل وعاملةً بوعي وبدرجة لافتة من التنظيم في مقاومة عملية الاندماج.
مواجهة تحدٍّ بهذه الصعوبة تتطلب العمل على إيجاد وعي جديد، وهي مُهمّة تقع على عاتق الدولة وما تديره من مؤسّسات تربوية وتعليمية وثقافية ومجتمعية، بوصفها الشكل الأرقى والأكثر تطوّراً في إدارة المجتمع. كذلك تقع، بمقدار لا يقلّ، على عاتق المجتمع المدني الحديث المتحرّر من أسر ما يُكبل من قيود الولاءات الفرعية الضيقة، لصالح بناء وعي وطني شامل، قمين بأن يشكّل قاعدة الهويّة الوطنية الجامعة والمنشودة.