الحرب داخل أسوار القلعة
شأن الملايين من الناس، سيما المنخرطين في النقاش العام، أتابع وقائع العدوان الوحشي على قطاع غزّة، وأحاول، قدر المستطاع، قراءة المشهد على الجانب الآخر، وكيفية تعاطي القادة والكتّاب الإسرائيليين مع هذه المجريات الذاهبة من تصعيد إلى تصعيدٍ أشد، عبر ما يتوفّر لي من مواد عبرية على الشبكة، أو مبثوثة من إحدى محطّات التلفزة الموجّهة إلى العالم العربي، لعلّي أقف على بواعث كل هذا الإفراط في القتل والتنكيل والتدمير، وفهم مقوّمات تلك الذهنية التي تُدير بجنون حرب إبادةٍ من الجو.
بتلخيصٍ شديد، وجدتُ أن أحد أهم البواعث لكل هذا السّعار الفاشي الفزع النابع من السؤال الوجودي المستحكم في اللاوعي الجمعي، من سؤال المصير الذي لم يُبارح الخيال لدى مجتمعٍ لا يستطيع العيش إلا على حدّ سيفه، حيث لا أحد في المنطقة يُشبهه، تراثاً وثقافة وسحنةً، ولا يتحدّث لغته أو يدين بدينه، أو يقبل به حقيقةً نهائية، خصوصا من أصحاب البلاد الذين لم يستسلموا له قط، بل واصلوا مقاومته بكل وسيلةٍ ممكنة، وها هم يقتصّون منه بعد 75 سنة كالحة، بشجاعةٍ وبأسٍ لا نظير لهما، ويديرون باقتدار أول حربٍ لا متماثلة داخل أسوار القلعة الحصينة، ويكسبون الموقف من الجولة الأولى.
وعليه، أحسب أن الشعور الساحق الثقيل بالخسارة، والحسّ بالإذلال الشامل، اللذين استبدّا بالقوم يوم السابع من أكتوبر، شكّل المعادل الموضوعي على منصّة التاريخ، وماثل ذلك الشعور المرير الذي فاض من أعماقنا يوم الخامس من يونيو/ حزيران قبل 56 سنة، وربما أكثر هوْلاً وأفدح ألماً، نظراً إلى حالة الغرور الشديد وروح الاستعلاء والغطرسة التي سرت في أوصال دولة الاحتلال والتوسّع الاستيطاني، وتغلغلت في أعطافها حتى الأمس القريب، الأمر الذي بدا معه ذلك اليوم مجيداً من أيام العرب، وهي نادرة، مقابل يوم أسود في سجلٍّ مثقلٍ بالفواجع والمراثي والمزامير، أو قل مثل كابوسٍ رهيب، لم يدُر في خلد أصحاب جيشٍ ربح سبع حروبٍ مع العرب، فبدا كجيشٍ لا يُقهَر في الوعي العام.
وليس من شك في أن الانتقام، الذي يتقدّم على كل ما عداه في حسابات الذئاب الجريحة، هو المتحكّم الآن بهذه العقلية، التي لم تكن ترى أحداً أمامها، ولا تحفل به على الإطلاق إن وُجد، فكيف إذا كانت الضربة الاستراتيجية المفاجئة هذه أتت من أناسٍ مُحاصرين مستضعَفين، يقبعون في السجن المفتوح تحت أعينٍ ظلت تعدّ عليهم أنفاسهم وأحلامهم وسعرات الحرارة في طعامهم، بدليل أن هذه الحرب تجري ضد الشجر والحجر والبشر من دون تمييز، بما في ذلك المستشفيات ودور العبادة، وتتواصل بمفردات السحق والمحق والإبادة، وذلك كله لإشفاء الغليل، وإشباع شهوة الثأر، لعل ذلك يُطفئ النار في الصدور، ويردّ الاعتبار لسمعة جيشٍ قُبض عليه بملابس النوم، وترميم صورةٍ تحطّمت مثل لوح زجاجٍ تهشّم برمية حجرٍ كبير.
من بين ما أكّدته وقائع معركة الأسبوعين الأولين من الحرب المفتوحة، زماناً ومكاناً، وكتبتْه بالبنط العريض على الحائط العريض، إن إسرائيل مجرّد دولة قائمة على جناح طائرةٍ حربيةٍ أميركية الصنع، وإن ميزتها النسبية الوحيدة التي ظهرت في الحروب السابقة تكاد تكون مستمدّة من هذا الفرع المتقدّم تكنولوجياً، قياساً بغيرِه من مكوّنات جيشٍ مُصنّفٍ أحد أقوى الجيوش في العالم، الأمر الذي يمكن الاستنتاج معه أن الصورة الذهنية المتجذّرة لدينا، عن مضاء هذا الجيش، لم تكن في محلّها، وليس أدلّ على ذلك من هذا الخوف إزاء دخول غزّة برّاً، وهذه الخشية من القتال وجه لوجه، فنحن نشاهد دبابات وطائرات، ولم نُشاهد جندياً إسرائيلياً على الأرض، على الأقل منذ حصار بيروت عام 1982.
إزاء ذلك، يمكن القول إن دولة الاحتلال والعدوان، بقادتها السياسيين والعسكريين، تبدو اليوم وكأنها تحلّق بطائرةٍ حربيةٍ في سماء غزّة، وإن الربّان والملّاح وطاقم الطائرة، وربما الرّكاب، قد أصابتهم نوبةٌ من الجنون، واستولت عليهم حالة عُصابٍ هستيري، في محاولةٍ مستميتةٍ لمحو آثار هزيمةٍ تاريخيةٍ فارقةٍ في مجرى الصراع، سوف تظلّ حقائقها السياسية حاضرةً في وعي الفلسطينيين والعرب أبد الدهر، وربما لاستعادة صورة مكسورة، وهيبةٍ مهدورة، وسمعةٍ باتت في الحضيض، واسترداد مكانة ذهبت أدراج رياح فجرٍ يوم خريفيٍّ هبّت نسائمه من غزّة، فأرست سابقة غير مسبوقة، كسرت أنفاً معقوفا، وكتبت سطراً جديداً في صفحة كيّ الوعي وإسقاط الزعم والردع والغرور.