الحرب على إيران أم عزل القضية النووية؟
في 6 إبريل/ نيسان الماضي، وقبل ساعات من اجتماع اليوم الأول لدبلوماسيين غربيين وإيرانيين، في فيينا، لإطلاق المحادثات بشأن إحياء الاتفاق النووي بين إيران والقوى الكبرى للعام 2015 (خطة العمل الشاملة المشتركة JCPOA)، هاجمت وحدة كوماندوس خاصة بالبحرية الإسرائيلية، السفينة العسكرية الإيرانية، سافيز، في البحر الأحمر. كان الهجوم بمثابة رسالة إسرائيلية مفادها بأن إسرائيل غير معنية بما قد تتمخض عنه تلك المفاوضات من نتائج، وأنها مستمرّة في تنفيذ الإجراءات أحادية الجانب وغير المعلنة لمحاولة شل (أو إبطاء) برنامج إيران النووي، الذي طالما شككت إسرائيل في سلميته، وأكّدت أن هدفه حيازة إيران سلاحا نوويا.
تصاعدت التوترات بين إسرائيل وإيران بعد انسحاب إدارة الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، من الاتفاق النووي للعام 2015، وفرضت العقوبات على طهران. شن الخصمان الإقليميان عملياتٍ في الظل ضد بعضهما بعضا سنوات. واستطالت حرب الظل الإيرانية الإسرائيلية، في العام 2019، وتوسّعت لتشمل أهدافا بحرية، وقعت آخر معاركها في 29 يوليو/تموز الماضي، حيث استهدف هجوم، يُعتقد أنه نفّذ بطائرة مسيرة أو أكثر، السفينة ميرسر ستريت، في بحر العرب، التي تديرها شركة يملكها رجل الأعمال الإسرائيلي، إيال عوفر، بدا معه أن طبول حرب جديدة بدأت تُقرَعُ في المنطقة.
غالبية الجمهوريين في الكونغرس، ومعهم ديمقراطيون، غير متحمّسين للاتفاق النووي
حرص الطرفان، الإسرائيلي والإيراني، على أن تبقى الأضرار التي تلحقها هجماتهما بالسفن، جزئية، ومن دون أن تؤدّي إلى إغراقها. لكن الهجوم الذي جرى أخيرا، وتجزم إسرائيل بوقوف إيران وراءه، شكّل تصعيدا خطيرا مع خسائر بشرية، تمثّلت في سقوط قتيلين من أفراد طاقم السفينة (قبطان السفينة الروماني وحارس أمن بريطاني). الهجوم هو أول مواجهة كبرى مع إيران بالنسبة لرئيس الوزراء الإسرائيلي، نفتالي بينت، الذي سعى إلى استغلال الحدث سياسيا لإقناع الدول المعنية بالمفاوضات النووية مع إيران بشروط إسرائيل قبل المضي نحو أي اتفاق جديد، وانتهز الفرصة للضغط دبلوماسيا من أجل اتخاذ إجراء دولي ضد إيران، ساعيا إلى تسويقها، لا بوصفها مشكلة إسرائيلية، بل أيضا "مصدرا للإرهاب" و"عدم الاستقرار" في المنطقة.
انضمت الولايات المتحدة وبريطانيا إلى إسرائيل في تحميل إيران المسؤولية عن الهجوم، وأعلن وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، أنه سيكون هناك رد جماعي وشيك لمحاسبة إيران. وكانت صحيفة كيهان، الإيرانية المحافظة، قد أقرّت بوقوف إيران وراء الهجوم، بدعوى أن "ميرسر ستريت" هي سفينة تجسّس إسرائيلية. ونقلت قناة العالم الإيرانية الرسمية الناطقة بالعربية عن مصادر (وصفتها بالمطّلعة) أن استهداف السفينة جاء "ردّاً على هجوم إسرائيلي أخير" استهدف مطار الضبعة في منطقة القصير السورية. وقد أدركت وزارة الخارجية الإيرانية تعقيدات الموقف، فحاولت امتصاص الغضب الدولي، بأن نفت أي مسؤوليةٍ إيرانية عن الهجوم، وتوعّدت بردّ قاس في حال تم تهديد أمنها القومي.
إصرار إدارة بايدن على إبرام صفقةٍ كبرى تُخضِع لها إيران أمرٌ ما انفكّ يعطّل الوصول إلى أي اتفاق
الضغائن بشأن الاتفاق النووي الإيراني تكمن في صلب التصعيد الجاري. هناك نقاط خلافية عديدة أعاقت التوصل إلى اتفاق نهائي في مفاوضات فيينا، في مقدمتها إصرار الولايات المتحدة على إدراج بند في الاتفاق المحتمل ينصّ على موافقة طهران على استكمال المفاوضات لاحقاً، بشأن سياساتها الإقليمية وبرنامجها الصاروخي، الأمر الذي رأت فيه إيران تدخلا في شؤونها الداخلية (أكّد على ذلك المرشد الأعلى علي خامنئي أواخر الشهر الماضي). أميركياً، كان غالبية الجمهوريين في الكونغرس، ومعهم ديمقراطيون، غير متحمّسين للاتفاق النووي، وحرص الرئيس الأميركي، جو بايدن، إبّان وصوله إلى البيت الأبيض، على الحصول على دعم الحزبين، بشأن عدد من القضايا الخلافية الأخرى، الأمر الذي جعله أقلّ حماسة للمضي في مفاوضات فيينا. وكان لبحث الطرفين، الأميركي والإيراني، عن أوراق ضغط لتوظيفها في المفاوضات (منها المواجهات المتكرّرة بين القوات الأميركية والمليشيات الحليفة لإيران) دور في تعقيد تلك المفاوضات. في غضون ذلك، صعّدت حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، بنيامين نتنياهو، هجماتها العسكرية على إيران، وأدرك نتنياهو أن ردّا إيرانيا مرجّحا سوف يعكّر المزاج السياسي العام الراغب في التوصل إلى اتفاق نووي جديد. وبينت، ليس أقل عداء لإيران، فطالما أدلى في الماضي بتصريحاتٍ متشدّدة، مؤكدا ضرورة مهاجمة "رأس الأخطبوط" في طهران، وعدم الاكتفاء باستهداف حلفائها في المنطقة، كما شجب انتخاب إبراهيم رئيسي، ولم يوفّر فرصة لحثّ إدارة بايدن على التخلي عن المفاوضات مع إيران. أما رئيسي، فمحسوبٌ على المحافظين، وهو تابع مخلص للمرشد خامنئي، الذي أكّدت له تجربةُ حكومةِ الرئيس السابق، حسن روحاني، بالانفتاح النسبي على القوى الكبرى، بما فيها الولايات المتحدة، أنّ "الثقة في الغرب لا تنفع" بحسب تعبيره. تتوفر لرئيسي وبينت حوافز كثيرة للدخول في علاقات عدائية، تزيد من موقف أحدهما تجاه الآخر تشدّدا. كان الاستعصاء في فيينا سببا رئيسا للتصعيد الحالي، والأمور مرشّحة لمزيد منه، لكن اللعبة اليوم محفوفة بالمخاطر، وقد تجد أطراف هذا التصعيد نفسها في مواجهة مفتوحة، عن قصد أو عن سوء تقدير. وقد تنتصر الأيديولوجيا في إيران على أي براغماتية منتظرة.
بدا بلينكن، وزير الخارجية الأميركي الحالي، ونائب وزير الخارجية في إدارة باراك أوباما، في العام 2017، مقتنعا بأن العيش في العالم "الحقيقي" لا "المثالي" يُحتّم عدم التفاوض "على كل سلوكٍ خاطئ تمارسه إيران في الداخل وفي جميع أنحاء العالم"، وأكّد "أن القضية الوحيدة التي كان شركاؤنا على استعدادٍ للتفاوض بشأنها، بما في ذلك الأوروبيون، بما في ذلك الصين وروسيا، ناهيك عن إيران، كانت البرنامج النووي". اليوم يتخلى بلينكن عن الواقعية الدبلوماسية التي أقرّ بها سابقا ليخاطب إيران بلهجة متوعّدة. أما إصرار إدارة بايدن على إبرام صفقةٍ كبرى تُخضِع لها إيران أمرٌ ما انفكّ يعطّل الوصول إلى أي اتفاق، فلو كانت إيران على استعدادٍ لوضع برنامجها الصاروخي، وسلوكها الإقليمي، على طاولة التفاوض، لفعلت ذلك في عهد ترامب الذي انقلب على اتفاق العام 2015 نزولا عند رغبة إسرائيلية، قبل أي حساب لمصلحة أميركية. من الضروري مجدّدا عزل القضية النووية عن غيرها من القضايا، وفق المنهج الذي سار عليه اتفاق 2015، وكان سببا في نجاحه. على إدارة بايدن أن تفكّر جدّيا في عودة الطرفين، الأميركي والإيراني، إلى الامتثال الكامل للاتفاق السابق الذي اقتصر على المسألة النووية من دون غيرها، شرطا لبناء الثقة بين الطرفين، وبدافع منها يمكن معالجة القضايا الإقليمية، والمخاوف الثنائية، بدل أن تظلّ هذه القضايا، وتلك المخاوف، شروطا مضافة تعطّل أي اتفاق. ذلك مشروط باستراتيجية أميركية للتعامل مع مختلف قضايا المنطقة، بدل التمسّك بتكتيكاتٍ ثبت فشلها، وينبغي لأي صفقة كبرى أن تشمل المنطقة برمّتها، وهذه ليست مهمة إدارة بايدن وحدها، بل مهمة إدارات أميركية متعاقبة مع جهد دولي منسّق. على الأقل، بإمكان بايدن التأسيس لتلك المهمة، بدل أن يصطف إلى جانب حكومة بينت الهشّة، قارعا طبول الحرب.