الحرب وكلّ هذه الأخبار
أما وأنّها الحرب، فالحذر في استقبال الأخبار عنها يحسُن أن يكون كثيراً، وكذا التدقيق جيداً في مصادرها، أوكرانية وروسية. ولمّا صِرنا على عتبة أسبوعٍ رابعٍ للعملية العسكرية الكبرى، يجوز، مع تحرّزٍ لازم، وقوفٌ عند ما أمكن من خلاصاتٍ بشأن الأداء الإعلامي العام عن هذه الحرب، الراحج أنّها لن تنتهي في موعدٍ منظور. ولعلّ أول ما في الميسور التأشير إليه أن ثمّة شُحّاً في الأخبار من السلطات الروسية، العسكرية والحكومية، في مقابل طوفانٍ من الأخبار الواردة من الرئاسة والحكومة الأوكرانيتين. وفي الوسع تفسير هذا بالتحفّظ التقليدي العام لدى نظامٍ لا يأخذ بالإعلام الحر المنفتح، كما هو الحكم في روسيا بوتين. وكذلك بالتصوّر الذي يصدُر عنه الإعلام الروسي كله، في هذه اللحظة، وموجزه أنّ البلاد في حالة حربٍ ذات حساسية استراتيجيةٍ خاصة، ومستهدفة عسكرياً واقتصادياً ودعائياً وإعلامياً، فلا يمكن، والحالة هذه، إلّا تقييد الوارد والصادر من أخبار إلى الجمهور الروسي، والاكتفاء بإيضاح ما يستدعيه تقدير الموقف ميدانياً وسياسياً أو التعقيب بشأنه أو الردّ بخصوصه لجمهور الخارج. أما في الشقّ الأوكراني، فإنّ ضخّ الأخبار وإغراق الناس في كلّ مكان بها، عن دمارٍ تُحدِثه روسيا في البلاد، وعن جرائم حربٍ تقترفها القوات المعتدية، وعن آلافٍ من القتلى يسقطون (يومياً أحياناً) من الجيش الغازي، وعن هروب المدنيين من القذائف الروسية التي لا تميّز بينهم وبين أهدافٍ عسكرية، وعن المقاومة الجسورة التي يبديها الجيش الأوكراني، مدعوماً من حكومةٍ متماسكةٍ ومن الرئيس الذي لا يتوقف عن التواصل مع الشعب والعالم، ويأخذ الصور مع الناس في العاصمة التي يُرى أيضاً في شوارعها مستشارون له يتجوّلون فيها، وهم يرتشفون القهوة .. عن هذا كله، وكثير غيره، ثمّة فائضٌ من المواد الإعلامية من المصادر الأوكرانية، فيها ما ليس صعباً اليقين من كذبه ومبالغاته، وفيها ما هو حقيقيّ وصحيح، وفيها ما يزاوج بين هذا وذاك.
سيكون تقليدياً كلّ كلامٍ عن الإعلام سلاحاً، وعن الدعاية أداةً، وعن التعبئة ضرورة، وعن الحقيقة ناقصةً، في أثناء الحروب والمعارك. ولهذا، من طبائع الأمور وبديهياتها أن يجري استقبال كلّ الأخبار من روسيا وأوكرانيا بالحذر المستحقّ، وألّا يستسلم المشاهد المتسمّر أمام شاشات الفضائيات لمنطوق الصور وحدها، فهذه المشاهد قدّامك، مهما كانت وفيرةً، ثمّة غيرُها ليست قدّامك، لم تتحقّق فرصٌ لالتقاطها أو استكشافها أو السماح بتصويرها، ربما تجعل الانطباعات التي تتشكّل لديك تتغيّر أو تصير على عكس ما يوحي به ما يراه ناظراك. وفي المبتدأ والمنتهى، لكلّ وسائط الإعلام ومنابره ومؤسّساته مواقفها ومنظوراتها السياسية، والتي يكون من شديد الوجوب أحياناً أن تُفصح عنه، بلا مراوغةٍ (تخيّل محطةً عربيةً محايدةً في تصوير عدوان إسرائيلي على قطاع غزة)، ويكون أحياناً من المهم تظهيره، سيما البعد الأخلاقي والحسّ الإنساني في التعاطف مع مآسي المدنيين، وفي إدانة كلّ جريمة حربٍ أو عمليات قتل عمياء في اجتياحاتٍ ومعارك موضعيةٍ أو شاملة. ولا ينتقص فعلٌ إعلاميٌّ مثل هذا من المهنية والموضوعية أبداً، على ألّا يكون سافراً في انتقائيّته أو تبريرياً في بعض مَواطنه. ولذلك، ربما استطاع المشاهد العربي أن يقع على الإعلام التلفزيوني المتّصف بالمهنية والأخلاقية والموضوعية بشأن الحرب المتواصلة في اليمن، وكذا اعتداءات النظام وارتكابات مجرمي التنظيمات المتطرّفة في سورية، وعلى إعلام فضائياتٍ استغنت عن المهنية، وعن الضرورات الأخلاقية والإنسانية، وانصرفت إلى الترويج إياه، الانتقائي الذي يخدم خياراتٍ سياسيةً مضمرة أو معلنة.
كان سيصير دجلاً ظاهراً لو أنّنا سلكنا القول إنّ لا ناقة لنا ولا جمل، نحن العرب، في الحرب الروسية الجارية في أوكرانيا، فثمّة نياقٌ وجِمالٌ غير قليلةٍ لنا فيها، من غير جانبٍ وعلى غير صعيد. وليس خافياً أنّ الاصطفافات الملحوظة في بيانات مثقفين وإعلاميين عرب، وكذا في أداء فضائياتٍ محدّدة، تصدُر عن مواقف معلومةٍ لدى هؤلاء وأولئك (بل والجميع إن شئت) بصدد قضايا بين ظهرانينا في بلادنا العربية .. من باركوا جرائم نظام الأسد ويظنّون، بمقادير من البلاهة وعمى البصيرة، أنّ روسيا الراهنة، برئاسة فلاديمير بوتين، نصيرة العرب، يصطفّون مع غزو أوكرانيا واحتلالها .. إذاً، القضية محسومة، شاهدتَ هذه الفضائية أو تلك، لتعرف ما يحدُث في كييف وخاركيف ولفيف.