الحق على لبنان وليس على الطليان
"كل الحق على الطليان" مثل منتشر في عالمنا العربي، يرمي المسؤولية التي يرتكبها العربي على غيره. وفي لبنان بعد الأزمة الكبيرة التي سقط فيها البلد، تحديدًا بعد ثورة 17 تشرين الأول 2019، أخذ اللبناني يفتّش عمّن يلقي عليه اللوم على ما وصل إليه من انهيار، من دون أن يلتفت إلى ذاته، ويقوم بنقد ذاتي لما جنت يداه.
بدأت وزارة الصحة العامة اللبنانية معركتها مع المستودعات والشركات الكبرى. هذا ما أكده وزير الصحة، حمد حسن، معلنًا انتهاء فترة السماح التي حدّدتها الوزارة للشركات المستوردة بعشرة أيام. وقال إن المداهمات ستكون شاملة، مسنودة بمعطيات واضحة ودقيقة، يتيحها نظام التتبع الإلكتروني. جاء قراره بعد عمليات ضبط لمستودعات تخزّن فيها الأدوية التي انقطعت من السوق، بغرض تهريبها وبيعها للخارج، لجني أرباح خيالية. وجاء القرار منسجمًا مع مداهمات الأجهزة الأمنية ومصادراتها في المحطات وأماكن تخزين المشتقات النفطية، التي يحرم منها المواطن، ما يجعله يقف ساعات طوال لتعبئة سيارته من البنزين، أو حتى حجب مادة المازوت عن المستشفيات والشركات والمعامل وغيرها، ما يغرق البلاد في أزمةٍ تهدف إلى الوصول إلى فوضى عارمة، ناهيك عن احتكارات للمواد الغذائية والاستفادة من سعر دعمها من الدولة، لإعادة بيعها بأسعار جنونية بغية كسب الأموال.
الحق كل الحق على حامي المحتكر، وحاضنه، من دون أن تتم محاسبته وسوقه إلى العدالة، ليكون عبرة لغيره
لا تنتهي فصول الاحتكارات والتخزين وحرمان اللبناني أخاه اللبناني من أدوية للأمراض المستعصية، أو من مادة المازوت للكهرباء، أو أي مادة حياتية أخرى، فالجشع والطمع عند المحتكر باتا من دون حدود، وكذا العبثية في التخزين والتهريب والبيع في السوق السوداء. وفاقت قدرة اللبناني على الاستمرار في الحياة، فالانتحار بات عنوان المرحلة، بسبب يأس اللبناني من الاستمرار مذلولًا ومهانًا.
ليس الحق على الطليان هنا، بل على اللبناني الذي يستغل الأزمات ليحتكر ويهرّب، متجاهلًا آلام أخيه اللبناني ومعاناته ووجعه. الحق كل الحق على حامي المحتكر، وحاضنه، من دون أن تتم محاسبته وسوقه إلى العدالة، ليكون عبرة لغيره، فلا تكفي المصادرة أو الإغراق بالشمع الأحمر، بل تجب محاكمة المحتكرين، وينبغي فتح أبواب السجون لهم، لأنّهم يساعدون في تعميق الانهيار الذي وصل إليه لبنان.
وكأن اللبناني لا يكفيه احتكار اللبناني له، لتأتي النزاعات الحكومية المستفحلة وعدم تشكيل حكومة إنقاذية تحاور المجتمع الدولي، وتوقف النزيف الكبير للبنان، فالكيدية السياسية اليوم ستطيح حكومة الرئيس المكلف، نجيب ميقاتي، والأمر لن يتوقف هنا، إذ علمت مصادر وزارية أن صندوق النقد الدولي يتجه إلى التريث في تحويل مبلغ الـ 860 مليون دولار إلى لبنان، من ضمن برنامج وحدات حقوق السحب الخاصة الذي قيمته 650 مليار دولار توزع على 190 دولة أعضاء في الصندوق، وذلك في انتظار تشكيل الحكومة الجديدة، على أساس أن الحالية لتصريف الأعمال، مع العلم أن هناك شروطًا وضعت للاستفادة من المبلغ المخصص للبنان.
أمام كل ما يعيشه اللبناني، لا يمكنه رمي اللوم على الطليان في أزماته التي وصل إليها
مرّ على استقالة حكومة الرئيس دياب أكثر من عام، ولم يستطع المسؤولون في لبنان تشكيل حكومة إنقاذية وفق مبادرة الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، لإخراج لبنان من عنق زجاجة الانهيار، فالكيدية السياسية، وانغماس بعض الأطراف بالصراعات الإقليمية، ورفض فكرة الحياد الإيجابي التي طرحها البطريرك الماروني، بشارة الراعي، جعل من لبنان خصمًا للدول الغربية والعربية التي قطعت كل أشكال الدعم عنه، وتركته يغرق في مستنقع الانهيار.
أمام كل ما يعيشه اللبناني، لا يمكنه رمي اللوم على الطليان في أزماته التي وصل إليها، بل عليه إعادة مراجعة حساباته ومواقفه، ليدرك أن الحقّ عليه، وحده من يحمل مسؤولية سقوط بلاده، فانتماؤه اللامحدود إلى زعيمه جعل منه فردًا لا قدرة له على المحاسبة، فقد هرّب المسؤول في عمق الأزمة مليارات الدولارات من لبنان إلى الخارج، من دون أن نسمع صوتًا معارضًا له، أو احتجاجات شعبية تطالبه باستعادة الأموال المهرّبة أو حتى المنهوبة، فتخلي الشعب عن دوره بالمحاسبة سمح للمسؤول بالتفنن في هدر المال العام وسرقته.
عذرًا أيها اللبناني. أنت من يتحمّل المسؤولية في انهيار البلاد، وليس العقوبات الأميركية ولا المقاطعة العربية
أيضًا، يقع الحق كل الحق على اللبناني، وليس على الطليان، في استغلال الأزمات واحتكار السلع الأساسية وبيعها بأسعار خيالية تفوق قدرة اللبناني على الشراء، ما جعله يتخلى ليس فقط عن الكماليات، بل عن الأساسيات أيضًا، ليأتي تقرير "يونيسف"، ويعرض الواقع المزري للبناني، حيث بات 70% من الشعب على أبواب الفقر.
عذرًا أيها اللبناني. أنت من يتحمّل المسؤولية في انهيار البلاد، وليس العقوبات الأميركية ولا المقاطعة العربية، ولا مصادرة إيران قرار الحرب والسلم في الحرب الإقليمية الدائرة. ولا تتحمّل الصين وروسيا الإتحادية المسؤولية، بسبب عدم دعمهما لبنان عبر السماح لشركاتها بالقيام بالاستثمارات في البلد، فأنتم، أيها اللبنانيون، لم تتخذوا أي قرار، لا بتشكيل حكومة، ولا بالحياد، ولا بقبول عروض صينية وروسية للاستثمار، بل قبلتم بواقعكم المذلّ، وها أنتم تقفون ساعات طوالًا في طوابير الذلّ لتأمين أبسط حقوقكم التي كان يجب تأمينها لكم، لو كنتم وقفتم في وجه حكامكم وانتفضتم، بدل التلهّي في التفتيش على من ستضعون اللوم عليه، لتتهرّبوا من مسؤولياتكم تمامًا، كما فعل ذلك الراعي الذي استغرق في النوم، فجاء الذئب وأكل أحد الحملان، وعندما لامه صاحب القطيع على ذلك، قال: السبب هو الأجراس في رقاب الطليان لأن صوتها لفت نظر الذئاب.