الحكومة الليبية الجديدة بين الواقع والطموح
سئم الليبيون وضعاً أُجبروا على العيش فيه منذ عشر سنوات، وسط انقسامات سياسية، واضطرابات أمنية، أدخلت البلاد في دائرة من الفوضى، ذاق فيها الجميع ويلات الحرب، وقسوة التهجير، وانعدام الخدمات، وهشاشة المؤسسات، والانتشار المتزايد للجماعات الإجرامية التي تمارس (بكل أريحية) الخطف والابتزاز، إضافة إلى تفاقم المشكلات الاقتصادية والصحية، وارتفاع حدّة الأوضاع المزرية، وتوالي أزمات شحّ الوقود والانقطاع المستمر للتيار الكهربائي ونقص السيولة النقدية، فضلا عن فساد استشرى، وبشكل ممنهج، في أغلب قطاعات الدولة، إلى درجة طاول فيها الفساد لجنة مكافحة الفساد، والرقابة الإدارية، وغيرهما من المؤسسات التي أنيط بها مكافحته.
هذه الأوضاع المأساوية، ناهيك عن الخوف من فشل اتفاق جنيف الموقع أخيرا، دفعت الليبيين إلى التفاؤل والترحيب بنتائج هذا الاتفاق، من دون أن يكلفوا أنفسهم الخوض في تفاصيله، أو التفكير في إمكانية تنفيذ مخرجاته، إذ يرون فيه بصيص أمل قد يخرجهم من هذه الدائرة المفرغة، فالوضع المزري الذي يعيشونه لا يتيح لهم الفرصة في المفاضلة، ولا يترك لهم مجالا لإملاء الشروط، بل يجعلهم يكتفون ببعض التحسّن والتقدّم، عله يكون نقطة انطلاق إلى وضع أفضل، يقود البلد إلى التعافي ولو تدريجيا، وهو ما قد يحققه هذا الاتفاق، على الرغم من كل مآخذهم الكثيرة عليه، وعدم رضاهم التام عن "التثليث" والمحاصصة الجهوية التي اعتمدت أساسا في اختيار هذه الحكومة. أفضى الاجتماع إلى اختيار القائمة التي ضمت محمد المنفي رئيسا للمجلس الرئاسي، وعبدالحميد الدبيبة رئيسا للحكومة، بالإضافة إلى عضوي المجلس، موسى الكوني وعبدالله اللافي، حيث فازت هذه القائمة بـ 39 صوتا من أصل 73، مقابل 34 صوتا للقائمة المنافسة، والتي ضمت رئيس البرلمان، عقيلة صالح، ووزير داخلية حكومة الوفاق، فتحي باشا آغا، آمر قوات المنطلقة الغربية، أسامة جويلي، وذلك بعكس كل التوقعات التي ذهبت (بل وتمنت) فوز هذه القائمة، ليس لأنها الأفضل، أو لأنها تضم الأكفأ، إنما لقدرتها على فرض سيطرتها من خلال وجودها القوي على الأرض، وامتلاكها قوة عسكرية كبيرة في المنطقة الغربية، تستطيع من خلالها حسم أي مجابهة، وبالتالي القدرة على فرض سيطرتها، بالإضافة إلى وجود عقيلة صالح من ضمن أعضائها، والذي يحظى بشعبيةٍ لا يستهان بها في المنطقة الشرقية، مستمدة من ثقل قبيلته، العبيدات، التي تعتبر من أكبر القبائل وأكثرها تأثيرا، وبالتالي ستضمن ولاء المنطقة الشرقية، ناهيك عن خبرة أعضاء هذه القائمة، من خلال وجودهم في المشهد السياسي الليبي منذ سنوات، ولكن الاختيار جاء مخالفا لكل التوقعات.
تفاقم المشكلات الاقتصادية والصحية، وارتفاع حدّة الأوضاع المزرية، وتوالي أزمات شحّ الوقود والانقطاع المستمر للتيار الكهربائي ونقص السيولة النقدية
ومما زاد في تفاؤل الليبيين ردود الفعل الداخلية والخارجية التي رحبت جميعها بنتائج هذا الاتفاق، حيث هنأ مسؤولون وسياسيون أعضاء الحكومة المختارة، فقد بارك رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق، فائز السراج، انتخاب هذه السلطة التنفيذية، متمنيا للمختارين النجاح في أعمالهم. وغرّد وزير الدفاع في حكومة الوفاق، صلاح الدين النمروش، "سندعم رئيسي الرئاسي والحكومة في استراتيجيتها ومشروعها في لملمة وتوحيد المؤسسات، بما يعزّز من قوتها وصلابتها لبلوغ الأهداف الوطنية في مرحلة بناء وتأسيس ليبيا الجديدة". وبارك كل من رئيس حزب العدالة والبناء، محمد صوان، وعضو المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق، محمد عماري، ورئيس المجلس الأعلى للدولة، خالد المشري، تشكيل السلطة التنفيذية الجديدة، وتمنوا لها التوفيق في قيادة المرحلة المقبلة. وفي خطوة لم يتعودها الليبيون منذ نجاح انتفاضتهم، هنأ أعضاء القائمة الثانية (الذين لم يتم اختيارهم) زملاءهم في الحكومة الجديدة، حيث صرح كل من فتحي باشاغا وجويلي وعقيلة إنهم على استعداد للمساعدة في إنجاح أي مساع حقيقية لتهيئة المناخ المناسب لإجراء الانتخابات في موعدها المحدد.
رحبت كل من تركيا ومصر والإمارات بنتائج هذه الانتخابات، واعتبرت قطر، في بيان لخارجيتها، "انتخاب ممثلي السلطة التنفيذية في ليبيا" علامة فارقة في مسيرة الشعب الليبي، ونضاله من أجل الاستقرار والازدهار والتقدم. وانضمت حكومات ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وبريطانيا إلى الولايات المتحدة وروسيا في الترحيب بالحكومة الانتقالية المؤقتة، متمنين لها النجاح في حل جميع القضايا، والتي من أهمها تنظيم استفتاء على الدستور، والإعداد والإشراف على الانتخابات الرئاسية والبرلمانية.
يدرك الليبيون أن الوعود الحكومية تحتاج خطة استراتيجية، لا يمكن لأي حكومة مستقرّة، تتوفر لها كل الإمكانات، أن تنجح في تطبيقها في أقل من خمس سنوات
وعلى الرغم من كل هذه المواقف الإقليمية والدولية، المرحبة بنتائج الاختيار، والداعمة مخرجاته، إلا أن الحكومة الجديدة ستواجه تحديات كثيرة، فالمشكلات والأزمات عديدة ومتشعبة، والوقت محدود، وسقف المطالب مرتفع، وستكون مهمة هذه الحكومة أشبه بالسير في حقل ألغام، فحصر السلاح بيد الدولة، وتوحيد الجيش، وتقليص سطوة المليشيات وسلطتها، ومعالجة الفساد المستشري، والتعامل مع فيروس كورونا الذي لا يزال يحصد مئات الضحايا، من دون أي اهتمام من وزارة الصحة التي صرفت المليارات من أجل توفير احتياجاتٍ لم تصل، وأدوية اختفت، وأماكن عزل ليس فيها مقومات العزل أو العلاج، والحدود المستباحة، والجنوب المحتل، و20 ألف مرتزق، وتوحيد الجيش، وتوحيد المؤسسات المصرفية والخدمية، والتعامل مع "مشير" مسكون بهوس السلطة، وتهريب الوقود غربا وجنوبا وعبر قوارب بحرية، ومعالجة الأزمات الاقتصادية، والملف الأمني ومكافحة الجريمة، كل هذه أمور ملحة وضرورية، ليس من السهل ترتيبها من حيث الأهمية، أو التعامل معها وفق أولويات معينة، نتيجة ارتباطها وتداخلها، وتأثير كل منها على الأخرى، بحيث يصعب التعامل مع كل مشكلة على حدة.
المشكلات والأزمات عديدة، والوقت محدود، وسقف المطالب مرتفع، وستكون مهمة الحكومة أشبه بالسير في حقل ألغام
وقد تعهد رئيس الوزراء الجديد، عبد الحميد الدبيبة، في كلمته عقب فوز قائمته، "بإنهاء الصراع"، و"العمل مع الجميع باختلاف أفكارهم وتوجهاتهم وأطيافهم ومناطقهم"، و"حل مشكلة الكهرباء والسيولة"، و"انتهاج التعليم والتدريب سبيلا إلى الاستقرار"، و"إيجاد وظائف للشباب"، و"حصر السلاح في يد الدولة"، وغيرها من وعود يشكّك كثيرون في قدرة الحكومة على تنفيذها. وعود اعتبرها بعضهم مجرد دغدغة عواطف، كثيرا ما يتخذها المنتخَبون وسيلة لكسب ود الناخِبين، سرعان ما تتلاشى مع أول جلوس للمسؤول على كرسي السلطة، خصوصا وأن لدى الليبيين تجربة مريرة مع مثل هذه الوعود، حيث يتذكّر كثيرون منهم تلك النخب التي توالت بالظهور عليهم، في بداية الانتفاضة، من فضائيات مختلفة، تبث من خارج ليبيا، تصوّر لهم الفردوس الذي سيعيشه الجميع بمجرّد سقوط نظام القذافي، بل وعدهم أحد متصدّري المشهد في تلك الفترة بأن "سيارات المرسيدس الفاخرة" هي التي ستكون وسيلة نقل الخبز الطازج إلى بيت كل مواطن ليبي. يستذكرون ذلك، وهم يعيشون أزمة حقيقية في الحصول على رغيف خبز تضاعف سعره، وقلّ وزنه، واختفى من الأسواق، وإن وُجد، فإن الفوز به يتطلب الوقوف في طوابير ليست بأقل من التي تشهدها محطات الوقود أو المصارف.
ويدرك الليبيون أيضاً أن مثل هذه الوعود تحتاج خطة استراتيجية، لا يمكن لأي حكومة مستقرّة، تتوفر لها كل الإمكانات، أن تنجح في تطبيقها في أقل من خمس سنوات، وبالتالي فهم، في هذه الحالة، أمام احتمالين لا ثالث لهما: استحالة تنفيذ هذه الوعود، والتمديد من جديد لمرحلة انتقالية أخرى، خصوصا وأن ذلك لن يكون "سُنة مستحدثة"، فقد سبقتهم إليها حكومات عدة، فحكومة عبدالله الثني المؤقتة لا تزال تمارس أعمالها في المنطقة الشرقية (بصفة مؤقتة!) منذ العام 2013، مسجلة رقما قياسيا في أطول فترة حكم لحكومة مؤقتة.
وما بين مطالب ملحّة لتحسين واقع مرير استمر سنوات ووعود لحلحة كل هذه المشكلات، يبقى انتظار ما ستحمله الأيام المقبلة، والتي ستجيب على "سؤال المليون": كيف ستتعامل الحكومة الجديدة مع كل هذه التحديات، وهل ستلتزم بالمدة المحدّدة لها، أم أن النتيجة ستكون أجساما أخرى تضاف إلى المشهد السياسي الليبي لتزيد من تعقيده؟