الحياد الإيجابي... حياد سلبي
منذ انطلاق معركة طوفان الأقصى من غزّة، والعدوان الإسرائيلي الذي استهدف القطاع في 7 أكتوبر (2023)، ومنذ انخراط جبهة جنوب لبنان، اعتباراً من اليوم التالي في هذه المعركة، على قاعدة الإسناد والإشغال، انطلقت بموازاة ذلك في لبنان دعوات من مرجعيات سياسية وحزبية، وحتى دينية، إلى عدم "زجّ" لبنان في أتون هذه المعركة، خوفاً من الغضب الإسرائيلي، كما لو أنّ تلك المعركة تجري في أقاصي الأرض أو على سطح القمر وليست على حدود لبنان (!). وجرى تلطيف دعوة إدارة الظهر لما يجري للشعب الفلسطيني برفع شعار "الحياد" أو "الحياد الإيجابي"، ويظنّ كاتب هذه السطور أنّه لا أحد في لبنان ولا في عالمنا العربي يستطيع أن يفسّر معنى "الحياد الإيجابي"، بمن فيهم من أطلق هذا الشعار وروّجه.
لم يكتف مطلقو هذا الشعار بذلك، بل نظّموا حملة إعلامية، ما زالت متواصلة وتدندن دائماً برفض الحرب ورفض جرّ لبنان إليها، وهم عملياً يريدون القول بذلك إنّهم يرفضون فتح جبهة جنوب لبنان مع الاحتلال الإسرائيلي بأيّ شكل، حتى ولو بشكل ما من أشكال التعبير السلمي الديمقراطي، وليس على شاكلة المواجهات الحربية المسلحة، وإن كانت على قاعدة الإسناد والإشغال لا على قاعدة الحرب المفتوحة والواسعة.
والحقيقة أنّ هذا المطلب رفعته وجاهرت به، بدايةً، الدول الداعمة للاحتلال الإسرائيلي ولعدوانه على غزّة، لأنّها كانت وما زالت تخشى من "فلتان" الجبهة الجنوبية، ومن شأن ذلك أن يؤرّق الاحتلال ويُفقده الاستقرار في المناطق الداخلية والشمالية من فلسطين، وهو ما يجعله تحت ضغطٍ آخر لا يمكنه تحمّله. وعليه، فإنّ الوقوف على الحياد يعني فيما يعنيه، وبغض النظر عن نيّات أصحابه، ولا تشكيك فيها، تقديم خدمة للاحتلال الإسرائيلي، حتى ولو كانت بسيطة في نظر بعضهم. فهل للبنان، بل لدول الطوق، مصلحة في الوقوف على الحياد في هذه المعركة التي يعرف الجميع أنّها ستقرّر شكل المنطقة ومستقبلها برمتها وليس فلسطين فحسب؟! ... بهذا المعنى، تصبح الدعوة إلى ما يُسمى "الحياد الإيجابي" سلبية، ويصبح الحياد سلبياً، حتى لو جمّلناه وقلنا إنّه إيجابي.
المعركة في غزّة ستقرّر شكل المنطقة برمتها ومستقبلها، وليس فلسطين فحسب
خلال أكثر من ستّة أشهر من الحرب على غزّة، تكشّفت أوراق كثيرة وعديدة داخل "إسرائيل"، ومنها اعتراف بعض القادة على المستويات السياسية والعسكرية والأمنية أنّ نيّة هذا الاحتلال من عدوانه على القطاع إعادة رسم خريطة المنطقة، وفق أهوائه ومصالحه وطموحاته، ومن بينها تهجير سكّان قطاع غزّة إلى مصر، وسكّان الضفة الغربية إلى الأردن، وسكّان أراضي 48 أو أقلّها الجليل إلى لبنان، فضلاً عن توطين اللاجئين الفلسطينيين في أماكن وجودهم، ورفض حقّ العودة، ناهيك عن الاعتراف الصريح بالعمل على إقامة "إسرائيل الكبرى"، من الفرات إلى النيل، ولو اقتصادياً وسياسياً وأمنياً، مقدمةً لـ "إسرائيل كبرى" جغرافياً. فأين مصلحة دول الطوق؟ وأين المصلحة في "الحياد الإيجابي"، ومصلحة لبنان تالياً؟ وهل يمكن التعويل على المجتمع الدولي من أجل حماية المصالح اللبنانية والسيادة اللبنانية كما يراهن بعضهم؟ وقد رأينا كيف عجز هذا المجتمع الدولي عن إدخال المساعدات الإنسانية للأطفال والنساء والمدنيين في قطاع غزّة أو ربما هو شريك في حصارهم.
وعليه، لا يمتُّ أيّ حياد في هذه المرحلة عن المعركة الجارية في غزّة إلى الإيجابية بصلة، بل هو حياد سلبي بكلّ ما تعنيه الكلمة من معنى، بل أبعد من ذلك، وإذا كان مطلقو الشعار لا يعرفون هذه الحقيقة فتلك مصيبة، وإذا كانوا يعرفون فالمصيبة أكبر وأدهى، ولكنّ المطلوب أيضاً، لإدراك هذه الحقيقة والتعامل معها بواقعية ومسؤولية أمران. الأول مطلوبٌ من الذين يخشون على لبنان من الحرب فلجأوا إلى رفع هذا الشعار، وهو معرفة أنّهم كالمستجير من الرمضاء بالنار، وأنّ ثمن الحياد قد يكون أكبر وأغلى من ثمن مساندة الشعب الفلسطيني في معركته التي يخوضها نيابةً ودفاعاً عن الأمتين العربية والإسلامية، وعن شعوب المنطقة وأنظمتها، نعم أنظمة المنطقة. لذلك، فإنّ المنطق والمسؤولية يقتضيان إعادة النظر في هذا الموقف والانخراط في دعم الشعب الفلسطيني في هذه المعركة، لأنّ أساس بلاء المنطقة وبلاء شعوبها هو وجود هذا الكيان المصطنع في فلسطين، واستمرارُه استمرارٌ لهذا البلاء.
والمطلوب الآخر، الذي لا يقلّ أهمية ومسؤولية، طمأنة الخائفين من الحرب ونتائجها على لبنان، بالتأكيد الفعلي والعملي على ضمان بقاء لبنان واحةً ووطناً للبنانيين كلّهم، على اختلاف مكوّناتهم وتنوّعاتهم، لا ساحة تُستخدم عند الطلب. ولعلّ أوّل خطوة في مسار الطمأنة تبدأ بفتح المسار السياسي المُغلق في لبنان، عبر تسهيل انتخاب رئيس للجمهورية يعيد إطلاق الحياة السياسية والدستورية، ويضمن موقع لبنان ودوره ومسؤوليته العربية تجاه قضايا المنطقة، وفي مقدمها فلسطين.