الدولة السلطانية السورية بين الظاهر والباطن
لا يخفى على أحدٍ أنّ السير العام للشؤون الاجتماعية والسياسية والثقافية السورية بعد انقلاب عام 1970 كان باتجاه توسيع الحقل السياسي الوطني "الزائف"، ومشاركة اقتصادية "وهمية" لسوريّي مختلف المنابت، وعلمنة "فاشلة" للتفكير والحياة العامة، وطبعاً ثقل وازن للطائفية "الخرساء"، فما كان الحكم البعثي، والأسدي ذاته، ممكنين لولا ذلك. وعليه، توقّف توسّع القاعدة الشعبية للحياة الوطنية، بفعل تفاقم الطابع التسلطي للنظام الحاكم، لتتراكم شتّى أنواع التناقضات، لعلّ أبرزها التناقض الصريح بين هياكل سياسية ضيقة، وسكان تزايدوا من ستة ملايين عام 1970 إلى تسعة ملايين تقريباً عام 1980، ونحو 18 مليوناً عام 2000، ووجدت نسبة عالية منهم خارج الحياة الوطنية اقتصادياً. وفي عهد الأسد الابن، احتدّ هذا التناقض بين البورجوازية بجناحيها، المحلي والمركزي، وشرائح مفقرة ومهمّشة من السوريين بفعل هيمنة نموذج ليبرالي جديد للتنمية، وتفكّك الأجهزة الشعبوية الموروثة عن الأزمنة الباكرة من الحكم الأسدي.
وعبر "البيعة" و"الأبوة"، صارت الدولة الأسدية مضخّة لعلاقات الاستتباع والنكوص الاجتماعي، لا يفوق فعلها أيّ عامل آخر. هكذا صار السوريون، مع مرور الزمن، سوريين أقل، ومنسوبين إلى جماعاتهم الأهلية أكثر. هذا لم يحصل عفو الخاطر، بل هو نتاج سياسة تمييز منهجية محصّنة بالقمع، تتولاه الأجهزة الأكثر طائفية في البلد. ففي الظاهر، ثمّة دولة "واهية"، حيث لا أحزاب سياسية، ولا سجالات وطنية في البرلمان أو الصحف أو الجامعات، لا رأي حرّاً، ولا احتجاجات علنية. السوريون جميعاً عبيدٌ اقتصادياً، أو موتى سياسياً. ما تسمّى، فعلياً، الدولة (الظاهرة) التي تتألف من الحكومة والجيش والتعليم والمؤسسات العامة ومجلس الشعب والمحاكم، إنها، بطبيعة الحال، عالم الموظفين التنفيذيين الذين لا سلطة لهم، ولا حرية. فيما تتكون الدولة الباطنة من "الأسرة الأسدية"، ومن الأجهزة الاستخباراتية والتشكيلات العسكرية ذات الوظيفة الأمنية، إضافة إلى أثرياء السلطة الكبار، كان أبرزهم رامي مخلوف، قبل خلعه عن عرش الاقتصاد السوري. المهم في هذا السياق، أنه كان في استطاعة مخلوف، الواجهة الاقتصادية للنظام السوري والقفازات السحرية للحاكم الفعلي لسورية، أن يتكلّم بدقةٍ ويفضح المستور أمام الرأي العام، لكنه قصد، حسب مراقبين، أن يكون بيانه المصوّر، الذي أطلَّ به ليحتكم إلى مواقع التواصل الاجتماعي، أقربَ إلى تمتماتٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ ليست ذات معنى مترابط، ولا تعكس ماهية الصراع الحقيقي بين الأطراف وأسبابه. بينما كان قادراً على أن يُعِدّ بواسطة إدارته وعلاقاته السياسية، لو كان الخلاف حقيقياً مع الأسد، خطاباً جامعاً مانعاً يقلب الطاولة، ويفضح كلّ تفاصيل فساد الأسد ونظامه! بعبارة أدقّ، اتقى مخلوف المساس برأس النظام السوري، "وهو الابن المدلل للدولة الباطنية الأشبه بعالم مافياوي سفلي"، ولا سيما، والمعلوم بالضرورة، أنّ أحد أهم خصائص النظام "الباطني" أنّه أفعوي يستند إلى الرأس في بقائه على قيد الحياة!
عبر "البيعة" و"الأبوة"، صارت الدولة الأسدية مضخّة لعلاقات الاستتباع والنكوص الاجتماعي، لا يفوق فعلها أيّ عامل آخر
تأسيساً على ما تقدّم، ومن أجل تمثيلٍ رمزي لحقيقة العلاقة بين الدولة الظاهرة والدولة الباطنة، يفيد الالتفاتُ إلى روزنامة الأيام الوطنية ومكانة أيام الدولة الأسدية أو "الدولة الباطنة" مقارنةً بأيام البلد و"الدولة الظاهرة". العيد الأكبر منذ عام 1970 هو ذكرى "الحركة التصحيحية المباركة التي قادها السيد الرئيس حافظ الأسد" في 16 نوفمبر/ تشرين الثاني، حيث تُكرّس لأجلها وسائل الإعلام المختلفة أياماً لتمجيد المناسبة وصاحبها، ويحيّيها معلمو المدارس في صفوفهم، وتعمّ اللافتات بصور "القائد الرمز" في الشوارع والساحات، وأمام مقرّات المؤسسات الرسمية وعلى أبوابها. تليها ذكرى انقلاب 8 آذار الذي استولى فيه عسكريو حزب البعث على الحكم عام 1963، فيما انزوى ما يفترض أنّه العيد الوطني الجامع، يوم جلاء القوات الفرنسية عن سورية، 17 إبريل/ نيسان، إلى مكانة ثانوية. جرت على هذا النحو إعادة هيكلة الذاكرة الوطنية، بحيث يشغل حافظ الأسد الموقع المؤسّس الذي لا يُدانى. أما الزمن قبل الأسدي، فقد جرى التكتم عليه بصورة تامة، ولا يُذكر إلا لضرورةٍ طقسية، بوصفه زمناً لـ"الإقطاع والبورجوازية".
يمكن أن نفهم اليوم أنّ الفساد السياسي الذي مارسه حافظ الأسد تمخّض عن فرز دولتين: دولة ظاهرة، لا سلطة حقيقية لها، ودولة باطنة، محروسة بالخوف والعنف، وليست مرئيةً من عموم السوريين، حائزة سلطة القرار في ما يخص المصائر البشرية والعلاقات بين السكان وتحريك الموارد العامة، فضلاً عن العلاقات الإقليمية والدولية. وأدّى هذا الفساد تدريجاً إلى النَّيْل من الأسد الابن، الذي بدل أن يمتلك "القوة" في إدارة الصراع، واتخاذ موقفٍ متوازن في استراتيجية "السير على الحبل"، بدا أنّه غير ممسكٍ بالعصا لإكمال السير، ما دفع "السكّين" إلى أن تقتصّ منه وتدخله دائرة "الفأر" بفعل ضحالة خبرته بالمقام الأول. ووسط تخبّطه، اختصر الدولتين الصريحتين في كيانٍ هشٍّ قائم على الابتزاز والأعمال غير المشروعة.
فئة أقلوية صغيرة من الضباط الذين جمعتهم مصالح متّسعة، وميراث ثقيل الوطأة من الجريمة
في السياق، كتبت مجلة "إيكونوميست" أنّ الابتزاز وتجارة المخدّرات هما مصدر الدخل الأهم في سورية حالياً، مؤكّدة أنّ بشار الأسد، رغم أنه يبدو متواضعاً مقارنةً بالديكتاتوريين العرب الذين يظهرون بأزيائهم العسكرية اللافتة والمزينة بالميداليات، فهو لا يرتدي مجوهرات ولا خاتم زواج أو حتى ساعة لامعة، إلا أنه من بين الحكام الفاسدين في المنطقة، لم ينهب أحد منهم بلده بشكل كامل كما فعل. ولفتت المجلة إلى أنّ الابتزاز أصبح مستشرياً، خصوصاً عندما قرّر الأسد هزّ المؤسسة الثرية في البلد، فاستدعى حيتان الاقتصاد إلى فندق شيراتون دمشق. ومن رفض منهم التخلي عن أرصدة، احتُجز في فرع 251، أحد مراكز الاعتقال المعروفة بالتعذيب والإذلال. بينما هرب مصرفيون وتجّار ورجالُ أعمال، وصودرت مصالح تجارية، وأغلق كثير منها. معظمهم من أمراء الحرب ولاعبِي الأزمة الذين "يغسلون" واردات التهريب. أيضاً يبني الأسد ثروة هائلة من الغاز والبترول والكهرباء. ففي الوقت الذي يعيش فيه سكان "الدولة الظاهرة" في الظلام، يوفّر الأسد الطاقة لوسطاء السلطة في لبنان. وبينما يقضون أيامهم مزروعين في طوابير القهر للحصول على الفتات، يعلن معهد نيولاينز للاستراتيجيا والسياسة بواشنطن أنّ مصانع بالجملة تنتج مادة الكبتاغون قرب الحدود اللبنانية، تُنقَل بعربات مصفّحة ومحمية بطائرات دون طيار وأسلحة ثقيلة، لتضخّ هذه التجارة ملايين الدولارات!
صفوة القول هنا أنّه لا نظام صلاح جديد - محمد عمران - حافظ الأسد، ولا نظام حافظ الأسد، ولا التجلّي الثالث للنظام الممثل بحكم بشار الأسد، اعتبر يوماً أنّه يحكم سورية باسم الطائفة العلوية. المشكلة لم تكن في طائفة النظام، بل في الواقع "السياسي – العسكري – الأمني" الذي صنعه، والذي تمخضت عنه دولتان متجاورتان غير متناغمتين، تؤكّدان أنّ النظام هو النظام. فئة أقلوية صغيرة من الضباط الذين جمعتهم مصالح متّسعة، وميراث ثقيل الوطأة من الجريمة، وشعور عميق بأنّ خياراتهم محدودة باستمرار السيطرة والتحكّم أو الفناء. في وقتٍ بدت فيه الطائفية تفكيراً بما وراء أسطح الظاهر والباطن، وما وراء الخطابات المُجاهر بها من ممارسات وأوضاع فعلية. إنها تفكير في المجتمع والدولة والسياسة خلال عقود الدولة الأسدية، وهي من وجوه أخرى للدولة السلطانية المحدثة التي تقوم على "البيعة" (أي التبعية) و"الفتنة" (أي الحرب الطائفية) و"الأبد" (أي السلالة والوراثة).