الرجعية العربية وأولئك التقدّميون
كان صديقي، العجوز جدا، حين يشتم على نحو سياسي، مازحا أو ممتعضا، يستخدم مفردات لها معانٍ مترادفةٌ ومتقاطعة ومتضادّة، وهلم جرّا. ردّد أحياناً شتماً لشخص لم يحبه بأنه "رجعي بلشفي أرستقراطي شوفيني ديناصوري بائد". ذات مرّة، قال ناعتاً صديقاً مشتركاً "إنه مسلم شيوعي وجودي نيتشوي". بالطبع، وقع الرجلُ على سعة معرفة، وما صدرتْ عنه تلك المتناقضاتُ جهلا بدلالاتها، بل إمعانا في السخرية من المصطلحات. وقد أصاب إن قصَدَ الإشارةَ إلى التناقضات الموجودة لدى كثيرين، ناشطين ومشتغلين في الثقافة والسياسة العربيتين.
صوابُ إشارةٍ كهذه متأتٍ من حقيقة ثقل ما نشأنا عليه بفعل مفرداتٍ أبعدت عن سياقها وألصقت في سياق آخر قبل اختبار أهليّتها له. حجمُ ما أدخل في الرؤوس "العربية" من كلماتٍ ذات دلالات سياسية كبير، فعُرفت المصطلحاتُ أما الدلالاتُ فمشوشة. نحن ماهرون في الكلمات وليس المعاني، وكذلك نظمُنا السياسية. في خضم هذا، لا أظنّ أن مصطلحاً بدا مغرياً مثل مصطلحي تقدّمي ورجعي. ساحرتان هاتان الكلمتان، ويزداد سحرُهما من معناهما اللغوي، فإحداهما المستقبل "تقدّمي" والأخرى الماضي "رجعي". المشكلة أننا لم نصبح تقدّميين، بالمعنى اللغوي للكلمة، لأننا الماضي بعينه. أما اصطلاحياً، فلسنا تقدّميين ولا رجعيين، كون المصطلحِ محكوماً بسياقات أخرى.
عندما قيل إن المنطقة شرعت في التحرّر من الرجعيات في أواسط القرن العشرين، لم يكن واضحاً جدا أيُّ معنىً تحديدا يُقصد بالتحرّر من الرجعية. هناك المعنى المرتبط بالثورة الفرنسية، وله علاقةٌ قوية بسياقها. المدافعون عن عودة الملكية وهيمنةِ الكنيسة الكاثوليكية بعد الثورة ألقي عليهم هذا الوصف. جاء البلاشفة الروس لاحقاً، فاعتنقوا المصطلح. وكما فعلوا ذلك مع مقولاتٍ ثوريةٍ عدة، وفّقوا بينه وبين الأطروحاتِ الماركسية. أصبح كلّ من يؤمن بنظام حكم ملكي دستوري أو غير دستوري، وجمهوري برجوازي، وثوري غير ماركسي … رجعيا. بالنهاية، أعيد إنتاجُ المصطلح ليلائم التوفيقِ بين حتمية ولادة مراحل ماركس التاريخية وقصديةِ الثورة الفرنسية، أيْ بين حتميةِ النهاية التلقائية لمرحلةٍ بسبب تراكمات صراع معيّن والبداية التلقائية لأخرى، وقصديةٍ تقوم على تعمّد الناس "التقدّميين" القيامَ بالتغيير وتوفيرِ فرص ولادة المرحلة الجديدة. في هذا الصدد، قُدّم، أيضا، مصطلحٌ ذو دلالة مقابلة هو تقدّمي.
مصطلحا رجعي وتقدّمي ليسا نظرية، إنما اصطلاحان سياسيان استنِد إليهما في مرحلة صراع بين مجموعة أحزاب أيديولوجية
المفردتان، بصرف النظر عن تعقيدات البحث في جذورهما الأوروبية وإعاداتِ إنتاجِهما، دخلتا إلى قاموسَ الناطقين العربية السياسي والثقافي. ربما وقف انتشارُ الأحزاب الشيوعية في بلدان الشرق الأوسط وراء رواجهما. وأيا يكن، كسب الأمرُ واقعاً سياسياً فعلياً مع قيام الجمهوريات في أكثر من بلد ناطق اللغة العربية، خصوصاً بعد انتصار الضبّاط الأحرار بمصر. وصفت الأنظمة الملكية السابقة أو الموالون للنموذج الغربي بأنهم رجعيون، وكأن ماركس ليس غربياً إنما شرقي. ثم قُدّمت الأنظمةُ الملكية في البلدان المجاورة للجمهوريات الجديدة بأنها رجعية. بدوره، بات نعتُ تقدّميّ حكراً على الشيوعيين وأمثالِهم أو على القوميين والبعثيين وأنظمتهم. تالياً، صار التمييز على أساس المفردتين داخليا. تنشقّ مجموعةٌ لتسمّي نفسَها تقدمية ومَن لم ينشقّ فهو رجعي، والعكس بالعكس.
إذاعةُ صوت العرب في القاهرة وأدبياتُ الخطاب العقائدي للأحزاب الشيوعية في أكثر من بلد، ونعوتُ خطاب البعث في بغداد ودمشق وسواهما، جميعُها، رغم الخلاف في الرؤية إلى حد التناقض، ركّزت على إلصاق كلمة رجعي بالنظم الملكية في الجزيرة العربية والأردن والمغرب. وكثيرا ما ارتبطت المفردةُ بتهمة العمالة للغرب الرائجةِ وقتَها ولا تزال. سعي مِن هذا الخطاب إلى إطاحة الأنظمة المناهضة للمشاريع الثورية الموسومة بأنها تحرّرية. في المقابل، كانت بعض أوساط القوى الإسلامية، خصوصا منذ سيّد قطب، تستخدم وصفا أقدم وذا دلالة لغوية مشابهة، هو المجتمع الجاهلي. هكذا بدت النظرةُ دائما إلى الآخرين، بدائيين وبقايا أثرية ويجب استئصالُهم، وأن الحركات الثورية الصاعدة تقدمية، من دون تحديد مفهوم صريح ذي دلالة أكيدة على معنى الكلمتين.
تجاربُ التقدّميين في الحكم انهارت تاركةً وراءها دماءً وقمعاً وفقراً وفساداً ونزوحاً وتخلفاً في التعليم والتنمية والثقافة
المفارقة، أن أغلب النظم المعتمِدة أيديولوجيا على ثنائية "رجعي – تقدّمي"، سواء في البلدان الناطقة العربية، أو عمومِ العالم، فشلت تجاربُها. ما تبقّى منها غيّر متبنياتِه سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً. الصين نفسُها لم تعد تقدّمية بالمعنى الشيوعي، وكوريا الشمالية تركت عمليا اسمها ديمقراطية اشتراكية تقدّمية، واستحالت وراثيةً تحصُر المال بيد سيد واحد، أو قليل من السادة. عربياً، ذهب التقدّميون جميعاً من خريطة التأثير السياسي، وصعد عوضاً عنهم أولئك الذين سمّوهم الرجعيين. تزايدت النزعةُ الدينية لدى الجماعات البشرية قياساً إلى ما كانت عليه في خمسينيات القرن الماضي وستينياته. ظلتْ حيةً نظمٌ وُصفت رجعيةً، بل استطاعت أن تستحوذ على التأثير الأوسع بين مجايلاتها الجمهوريات السابقة. تلك الجمهوريات ذاتها لم تعد "التقدّمية" التي كانت يوم قاد جمال عبد الناصر مصر، وحين جاء بعده أبناؤه الثلاثة، صدّام حسين ومعمّر القذافي وحافظ الأسد لقيادة بلدانهم. الجمهوريات تخلّت، في أغلبها، عما بدأت به تماما، وما استمرّ منها، مثل سورية مع جمهوريتها العربية، فهي منهارة ودامية وفاسدة ومفكّكة وضعيفة ومستباحة خارجياً.
ليس هذا دفاعاً عن نظم وأنماط وعقائد تسمّى رجعية، بقدر ما هو إشارة إلى أن ما اصطلح عليها بالتقدّمية ليست كذلك، أو على الأقل لم تمتلك مقوّمات ملامسة المستقبل. التجربة معيار مهم، وإذا ما تكرّرت تصبح ذاتَ دلالةٍ أوضح. تجاربُ التقدّميين في الحكم انهارت تاركةً وراءها دماءً وقمعاً وفقراً وفساداً ونزوحاً وتخلفاً في التعليم والتنمية والثقافة. هناك حنينٌ واسعٌ لأنظمةٍ ملكيةٍ ذهبت بوصفها رجعية، هذا وحده فشل للجمهوريات. بالطبع، يصعب فهمُ الحنين على أنه وعيٌ سليم، لأن الممالك يوم سقطتْ كانت غارقةً في عدم الاستقرار السياسي والطبقية الحادّة. إلا أن الناس يقارنون بين من غرقوا في الأخطاء و"التقدميين" ممن أغرقوا بلدانَهم في كوارث كبيرة، أدّت إلى انهيارها بلداناً، وليس بوصفها أنظمةً سياسية فحسب.
عندما قيل إن المنطقة شرعت في التحرّر من الرجعيات في أواسط القرن العشرين، لم يكن واضحاً جداً أيُّ معنىً تحديداً يُقصد بالتحرّر من الرجعية
على أيّ حال، حتى لو قبلنا بأسطوانة التبرير المشروخة القائمة على التمييز بين النظرية والتطبيق، وهي مستخدمةٌ للدفاع عن بعض النظريات والآراء والعقائد والأديان بالقول إن تطبيقاتها منحرفة، فإنها لا تعمل هنا. مصطلحا رجعي وتقدّمي ليسا نظرية، إنما اصطلاحان سياسيان أستنِد إليهما في مرحلة صراع بين مجموعة أحزاب أيديولوجية، حقّق ما تريده العسكر بانقلاباته وحكوماته من جهة، وأنظمة تأسّست مع قيام الدول العربية الحديثة، سواء بإشراف بريطانيا وفرنسا أو بطريقة أخرى. التقدّميون هم من سمّوا أنفسهم كذلك، وأطلقوا على آخرين تسمية رجعيين، متأثّرين بتاريخ استخدام المفردتين في أوروبا الغربية بعد الثورة الفرنسية وفي أوروبا الشرقية بعد الثورة البلشفية. أمّا كمية المقولات السياسية والأيديولوجية المعتمدة من الأنظمة الجمهورية الأولى، فرغم كثرتها، لم تكن سوى استجابة لطموحات زعامة أشخاصٍ كانت الاشتراكية والشيوعية والقومية أفضل طريق لتحقيقها، على اعتبار أن التعدّدية الحزبية والليبرالية والديمقراطية والنظم البرلمانية الصريحة لا تخدم من يريدون الزعامة منفردين. خصوصا أن مجتمعا يرغب في نتائج سريعة واستقرار سيرى في التعدّدية وما ينبع منها من صراع وبيروقراطية وضعا غير محبّب أو مرفوض، وحين يدرك خطأه يفوت الأوان بولادة الدكتاتوريات.
فشل "التقدميين" ونجاح النظم ذات النزعة "الرجعية" يطرح سؤالا عن السبب، لماذا؟ هل إنه فشل التقدّم ونجاح الرجعية؟ لا أظن الأمر كذلك، فلا تقدّمية في هذا الصدد، إن أردنا أن نعتمد المصطلح لغويا. اسم البعث ذو دلالة ماضوية. أمجاد الأمة العربية، هي الأخرى تاريخية. الشيوعية ذاتها، رغم أنها لا تؤمن بالماضي، آمنت بالاستعباد الفكري بالطريقة القديمة نفسها، كما على المرء أن يفكّر كما فكّر ماركس، هذا إن فهم صاحبَ "رأس المال". هل هذا يعني التقدّم؟
غالب الظن أن فشل التجارب "التقدّمية" كمن في أنها لم تفهم لحظتها الراهنة التي كانت فيها بقدر ما فهمت أمجاد الكتب، أو بقدر ما خضعت لطموحات أفرادٍ، أو بقدر ما انخدعت برومانسية ثورية في بلدانٍ أخرى. لهذا، لم تكن مرنةً بما يكفي كي تستمرّ وتعطي لأجيالها الأخرى فرصة تصحيحها. التصلّب في الطبيعة السياسية والثقافية للأنظمة وأيديولوجيتها جعلها قابلة للكسر، حتى لو احتفظت ببعض رونقها وكارزميتها. فهي، إضافة إلى استهتارها وعدم احترامها شعوبها، وظنها أن الناس يجب أن يتحمّلوا الحماقات، كانت نظما غبية للغاية، مهما بلغ حد ذكاء قمعها وتلاعبها بالناس. ومع أنها انتهت، ما زال خطابها رائجا لدى المتأثرين فيها من أولئك الأسرى في سجن خطاب الجمهوريات التأسيسية. وهذا، في حد ذاته، من أسباب تجدّد الفشل أكثر من مرّة.