الرياض في مرمى مناورات إسرائيلية محمومة
لا يكفّ رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن إبداء آماله بالتطبيع مع السعودية، فعل ذلك في حملته الانتخابية كما بعد فوزه في الانتخابات. وهو يعوّل، من طرف خفي وظاهر، على دور أميركي في هذا المسعى، من أجل إنجاز هذه الخطوة التي تعني انتهاء الصراع العربي الإسرائيلي، كما يقول زعيم تكتل الليكود الذي يعمل على إغراء الرياض بلجم التهديدات الإيرانية لها، فيما لا يتوانى وزير خارجيته، إيلي كوهين، عن القول إن العام الجاري (2023) سوف يشهد تطبيعاً مع ست أو سبع دول، بينها دولة خليجية، والمقصود السعودية.
إزاء هذه الحملة الإسرائيلية، تسلك الرياض، إلى حينه، سلوكاً دقيقاً ومحسوباً، فهي من جهة تُبدي استعدادها المبدئي للسلام مع تل أبيب، وتطلق إشاراتٍ من قبيل فتح الأجواء أمام الطائرات الإسرائيلية التجارية نحو الهند والصين، وتجري اتصالات محدودة مع تل أبيب، كما تذكر تقارير متواترة، غير أنها، من جهة أخرى، تؤكّد أن وقف حالة العداء يتطلب إزالة أسبابها، وأن الرياض متمسّكة بالقرارات الدولية والعربية في هذا الشأن، والتي صدرت منذ نحو نصف قرن، وأنه ليس من الحكمة والمنطق السياسي القفز عنها وكأنها لم تكن. وبهذا، لا يتعلّق الأمر فقط بالتضامن مع شعب ضحية للصراع، هو شعب فلسطين، بل أيضاً بمصداقية الدول والتزاماتها السياسية واحترامها المواثيق والقرارات الدولية. غير أن المناورات الإسرائيلية بهذا الاتجاه لا تتوقف، وتتمحور حول التعتيم على المطلب السعودي بضمان الحقوق الفلسطينية، وإشاعة أنباء عن تراجع مزعوم للمطالب السعودية، ومن ذلك ما أفاد به صحافي إسرائيلي زار الرياض (ليس معلوماً بأي جواز سفر) في الشهر الماضي (فبراير/ شباط)، وصرّح عقب عودته إلى تل أبيب للموقع الإسرائيلي آي 24 نيوز عن شروط وضعها (ولي العهد محمد) بن سلمان للتطبيع. وتتضمّن تعهّداً بأن لا تضمّ إسرائيل أراضيَ في الضفة الغربية، وأن لا يتمّ تغيير السياسة الإسرائيلية في شأن المسجد الأقصى، وأن تُوافق تل أبيب على إجراءات من شأنها تحسين ظروف حياة الفلسطينيين، وإقناع الولايات المتحدة باعتبار الرياض حليفاً رئيساً وبيعها أسلحة متطوّرة.
تغضّ إسرائيل النظر عن أن السعودية هي من أطلقت مبادرة السلام العربية
والملاحظ في هذه البنود المزعومة أنها تمثل الشروط المرغوبة إسرائيلياً، والتي تتمنّى سماعها، فتل أبيب، في هذه المرحلة وفي حقبة حكومة المستوطنين، إذ تقوم بضم فعلي للأراضي المحتلة، فإنها تتفادى الإعلان عن ذلك، بل تبدو مستعدّة عند الاقتضاء للتعهد بعدم الإعلان عن ضم الأراضي، فالمحكّ بالنسبة لها ما يتم إنجازه على الأرض. أما عن المسجد الأقصى فلطالما قالت تل أبيب (كما في اجتماع العقبة)، وستقول دائماً، إنها لن تغيّر سياستها، وفي الوقت نفسه، تحافظ على سياسة استباحة الأقصى خمسة أيام في الأسبوع على الأقل. أما تحسين حياة الفلسطينيين فإنها قد تجري بعض تسهيلات لانتقال العمّال والتجار، ولكن مع المحافظة على سياسة اقتحام المدن الفلسطينية في كل وقت وإدامة حالات التنكيل من قتل واعتقال. وأغرب الشروط المزعومة التي يوردها الصحافي الإسرائيلي، وينسبها للقيادة السعودية، فهو إقناع تل أبيب واشنطن بأن الرياض حليف رئيس. ولطالما كانت العلاقات السعودية الأميركية، على مدى عقود، منفصلة عن الموقف الأميركي من إسرائيل وبرغبة أميركية، ولطالما كانت الرياض، وستظلّ، على الأغلب، حليفة لواشنطن، والتعاون العسكري الدفاعي بينهما في وتيرة مضطردة.
وطبقاً لتقارير صحافية، تبادلت الولايات المتحدة والمملكة معلومات استخباراتية مطلع نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، عن عزم إيران تنفيذ هجوم إرهابي وشيك على السعودية، ونسّقتا ردّاً مشتركاً على ذلك. وشدّد في حينه المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي، جون كيربي، على أن "الولايات المتحدة تشعر بالقلق إزاء هذه التهديدات الإيرانية، ولا نزال على اتصال بالسعوديين من خلال القنوات العسكرية والاستخباراتية، ولن نتردّد في العمل للدفاع عن مصالحنا وشركائنا في المنطقة". وفي إطار التعاون المضطرد نفّذت قوات أميركية وسعودية تمارين وطلعات جوية مشتركة خلال الأشهر الماضية.
وفيما تراهن دولة الاحتلال على دور أميركي لإقامة تطبيع مع السعودية، فإن مسؤولين إسرائيليين يعودون للقول إن الفتور في العلاقات الأميركية السعودية لا يحسّن من فرص بذل جهود اميركية في هذا الاتجاه، وفق تقرير نشره موقع أكسيوس الأميركي، مع ما في هذا الرأي من إيحاء خفي بأن تطبيعاً بين الرياض والدولة العبرية يخفف التوتر السعودي الأميركي.
تسعى إسرائيل إلى ضربٍ من العلاقات العامة الهزلية، بتوظيف وجود رونالدو المتعاقد مع نادٍ سعودي للدفع كما يقولون بعملية التطبيع
وفي تصريح خلال مشاركته في منتدى دافوس العالمي، في يناير/ كانون الثاني الماضي، قال وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان: "لطالما نظرنا إلى قضية التطبيع على أنها نتيجة نهائية، ولكنها نتيجة نهائية لمسار، المملكة أطلقت مبادرة سلام عربية في عام 2001، وقبل ذلك مبادرة السلام الأولى، وجميعها يفضي إلى تطبيع كامل مع إسرائيل..". وأضاف: "ذكرتُ سابقاً أن التطبيع بيننا وبين إسرائيل، وكذلك المنطقة وإسرائيل، سيحقق فوائد هائلة للجميع، لكننا لن نستطيع حصد هذه الفوائد ما لم تحل القضية الفلسطينية.. ولقد شهدنا في الأسابيع والأشهر القليلة الماضية كيف أن هذه القضية غير المحلولة ما زالت سبباً لزعزعة الاستقرار في المنطقة". وشدد بن فرحان على أنه "يجب أن تكون الأولوية الآن حول كيفية دفع عملية السلام الفلسطينية الإسرائيلية إلى أمام، وهذا بالتأكيد سيعود بالنفع علينا جميعاً، وعلى الإسرائيليين والفلسطينيين، والمنطقة بأكملها، ويفتح الباب للآخرين للتطبيع".
تتجاهل تل أبيب بصورة منهجية هذه التصريحات المتكرّرة، وتغضّ النظر عن أن السعودية هي من أطلقت مبادرة السلام العربية. وبدلاً من ذلك، تسعى إلى ضربٍ من العلاقات العامة الهزلية، بتوظيف وجود لاعب دولي متعاقد مع نادٍ سعودي للدفع كما يقولون بعملية التطبيع. وبحسب القناة الرسمية الإسرائيلية كان 11 تسعى إسرائيل إلى تسريع عملية تطبيع العلاقات الرسمية مع السعودية، وتبحث مقترحات أولية لاستغلال انتقال كريستيانو رونالدو للعب في الدوري السعودي، و"تجنيده" للدفع بخطاب التطبيع بين تل أبيب والرياض، وهو أمر بالغ الغرابة، يتم التصريح به عن محاولة تجنيده، وعلى الأغلب من وراء ظهر اللاعب البرتغالي، إذ إن إقدامه على ذلك يخلّ على الأقل بشروط تعاقده مع النادي السعودي.
ومع الأخذ في الحسبان أن التطورات السياسية اللاحقة تبدو أحياناً غير قابلة للتنبؤ بها، وأن تغييراتٍ قد طرأت على النهج السعودي العام في الأعوام القليلة الماضية لجهة التشديد على الاستقلالية في القرارات، وعلى أولوية المصالح الوطنية، وعلى تنويع خيارات التعاون مع الدول، إلا أن ذلك لا يقود بالضرورة إلى التطبيع مع دولة الاحتلال، وبخاصة مع دفن فرص السلام، وانتقال الاحتلال إلى طوْرٍ من التوحّش ومن الشراهة في ابتلاع الأراضي المحتلة عبر التمدّد الاستيطاني، وهو ما يثير قلق الأبعدين، فكيف بالأقربين...