الزلزال السوري المدمِّر ومفاجأة "العَقْد" الاجتماعي المبشِّر
بعيداً عن المواقف الرسمية لقادةِ العالم إزاء كارثة الزلزال المدمّر الذي ضرب سورية في السادس من الشهر الماضي (فبراير/ شباط)، والتي قد تحمل تأويلات كثيرة مشوبة بغبارِ السياسة والدبلوماسية، تبقى "الهبّة الشعبية السورية" الأكثر مصداقية ونقاء، بعدما تحوّلت إلى ما يشبه الانتفاضة الإنسانية، المتجرّدة تماماً من أيّ أبعاد أخرى. إذ لم يشهد الشارع السوري، الذي يعاني من أزمات اقتصادية خانقة وهموم داخلية طاحنة، مثل هذا الحراك منذ عام 2011. في هذا المقام، لنكن شفّافين تماماً، ونعترف بأنه في سورية، تحديداً، لا يمكن تجاوز تاريخها الحافل بالصراعات والنزاعات والتشتّت، خصوصا بعد ما أفرزته حرب العشرية السوداء من نتائج لا يمكن إغفالها لكلّ ذي عينٍ ترى. ولنعترف كذلك بأنه لم تعد هناك ثقة "مطلقة" بين السوريين، بأكثرياتهم المُفترضة وبأقلياتهم المُعلنة، فثمّة شروخٌ غائرةٌ وجروحٌ ملتهبة لا يمكن إنكارها على أيّة حال، أنتجت مظلومياتٍ جديدة تُضاف إلى المظلوميات المتراكمة منذ سنين. مع هذا، يُحسب للحراك السوري "العفوي" إبّان كارثة الزلزال تحقيق انتصارٍ هائل، لا يتجلى فقط في سحبِ البساط من تحت قدمََي النظام البراغماتي الحاكم، بل أيضاً في تأصيل الخصال السورية التي وثقتها آلاف الشواهد التاريخية، حتى وإنْ انزوت خلف الأدلجة والعناد السلطوي لنظام الأسد.
السؤال الذي يجب البدء منه هو سؤال الأولويات بالطبع، ففي مجتمعٍ ممزّق يفتقد الهوية الوطنية الجامعة، والمجلّل، بطبيعة الحال، بواقع انتشار المجاعات وفقدان الأمن، وتحدّيات التمويل والتخطيط العادل لإعادة الإعمار، لا بدّ من التساؤل بحذر: هل انتعش المجتمع المدني السوري مجدّداً، وهو الذي أُعيد تدويره ليتحوّل إلى أداةٍ تخضع للدولة التسلطية البعثية؟ وكان من نتائج هذا "المَسْخ" الكارثي أنْ تحطّمت على صخرة "الأسد إلى الأبد" استقلاليةُ السوري وهويته الاجتماعية، فانتهى به الحال في منظماتٍ أهليةٍ وبنى عضويةٍ تقليدية، متخذاً منها "ملاذاً" من البطش والتهميش، تعايشت مع الدولة القمعية، لتؤكّد أنّها ليست أشكالاً من المجتمع المدني، وهو في جوهره، بنى وسيطة مع الدولة وليس ملاذاً منها. عملياً لم تؤدِّ هذه البنى وتلك المنظمات الهدف المرجوّ منها، بل على العكس تماماً كانت ضعيفة أمام العصبية الأيديولوجية أو المناطقية أو القبلية، وسرعان ما تساقطت أمام البنى التقليدية الراسخة.
لم تكن المؤسّسات التي تدّعي المدنية سوى كانتونات هزيلة، مهمتها تدعيم سلطة الاستبداد، متحوّلة إلى مداجن لتفريخ "الشبّيحة" عند الحاجة
وللإجابة بحكمة، ومن دون الغوص في مسبّبات هذا "المَسْخ" ومظاهره، تجدُر الإشارة إلى أنّ الزلزال أتى في وقتٍ نجح فيه نظام الأسد في إشاعة سياسة الإذلال المعمّم والإهانات الجمعية والفردية، إحدى الوسائل المجرّبة لتحويل المواطن إلى عبدٍ ذليل ومقهور. أيضاً نجح في تغذية الإحساس لدى المجتمع بأنّه عاجزٌ عن اتخاذ القرارات، ما أشاع وعياً زائفاً أوجد لدى السوري شعوراً ملازماً بالقصور والدونية، وبأنه هلاميٌّ أمام نخبٍ حاكمة "كاريزماتية" مسؤولة عنه، ويجب أنْ تبقى موضع رعب وسيطرة كبيرين. مع هذا، سعى السوري مراراً للتحرر من وهم الوصاية، والاستئثار المعرفي، ومن سميّة الأيديولوجيات والتصورات المسبقة، وعمل على التغيير بصورة مخططة وإرادوية. ولا شكّ في أن "الحراك الشعبي العفوي" والذي بدأ منذ الساعات الأولى للزلزال المدمّر، خير دليل على هذا، إذ أعلن رفضه المنظومة المتعنّتة السائدة، ليتمسّك برؤيةٍ جديدة أكثر انعتاقاً وانفتاحاً، تحدوها المعرفة العميقة بخصوصية الواقع السوري، وضرورة إنزال الأفكار الشمولية من عليائها وغطرستها. كما رفض مختلف الأطر الجاهزة، والمقولات الحتمية مدّعية الصلاحية في كلّ زمان ومكان. ونجح تالياً، في تعرية نهج نظام الأسد الذي قنص المساعدات الإنسانية، ونجح، وإنْ بشكلٍ خجول، في تمزيق شرنقة العزلة عربياً، كما كشف تمظهره الخادع بالمظهر الوطني الحريص، مؤكّداً أنّ تلك الابتسامات الصفراء التي رافقت الأسد في جولاته المستفزّة داخل المدن المنكوبة لم تكن أكثر من "إعلانٍ رخيص" عن نجاحه المدوّي في جني غنائم الكارثة وحيداً، متفوّقاً على ما حقّقه في الخنادق وساحات القتال.
ثمّة من اعتبر تجربة "المجتمع المدني السوري" نهجاً قائماً على الاستجابة الطارئة الخجولة، المرتبطة بالمتغيرات على الساحة السياسية. ويحصل أنْ تُعمّم هذه النظرة ليس فقط على المجتمع المدني القائم بأعمال الخدمات والإغاثة، وإنما أيضاً القائم على نهج الحقوق وتغيير الخطاب. وعليه، سنملك جرأة التساؤل مجدّداً: هل تغيّر مفهوم هذا المجتمع بعد 6 شباط؟ لا مبالغة في القول: بالطبع تغيّر. فبعدما شعر السوريون بخطر الانزلاق نحو أشكالٍ شعبويةٍ وتحطيميةٍ ستعزّزها السلطة الحاكمة، وهي أشبه بمساحات الأمان التي تتحرّك بها، وكي يتجنبوا إحساساً غامراً بأنّهم في مهبّ النّهش، بينما يعيشون وطأة الخسارات وقصووية الأوضاع المأزومة، بدا أنّ الحراك الشعبي جاء ضرورة مُلحّة لتبيان ما هم قادرون على فعله، لاجتراح المعجزات وسط الجحيم السوري، وتشكيل بيئة نقاش، تفاعلٍ وسجال، تفهّم واعتراض، تضمن مكاناً للاتفاق الفعال، وللاختلاف المؤنسن، وللخصومة بكرامة. وما بين تبرّعات مادية، ودعم نفسي، وصلوات غائب، ودعواتٍ لم تفارق الحناجر، هبّ السوريون إلى المسارعة في هذا الماراثون الإنساني الملحّ عبر عشرات المبادرات المستقلة التي ترأسها منظماتٌ مدنيةٌ مستقلة، إعلامية ومجتمعية، في مشهدٍ صادم مطيّبٍ للخواطر، حتى كادت منصات التواصل الاجتماعي تتحوّل إلى مزادٍ كبير لتقديم عروض الدعم والمساعدات بشتّى أنواعها.
أتى الزلزال في وقتٍ نجح فيه نظام الأسد بإشاعة سياسة الإذلال المعمّم والإهانات الجمعية والفردية
يفترض جان جاك روسو أنّ "الأفراد المنعزلين اللا أخلاقيين" يصل احتياجهم أخيراً إلى التعاقد وتقديم تنازلات، فيتماسك المجتمع المدني في عقدٍ اجتماعي بـ"رابطة أخلاقية" تجمعهم، وتسمح لهم بالمشاركة في الحياة السياسية للجماعة. مرّة أخرى .. هل هذا الافتراض الفلسفي ينطبق على السوريين؟ أجزم أنْ نعم، فمخرجات الحرب السورية لطالما شكّلت فضاء عاماً للتواصل والتقارب، رغم الأحقاد والجروح التي عزّزتها سلطة سادية، صهرت كل المجالس والنقابات والجمعيات والمؤسّسات في جهاز الدولة القمعي، فقضت على استقلاليتها كجزء من سياسة سحقها للمجتمع السوري، كما تّم "تبعيث" الوزارات في إطار مشروعها لتكوين دولة شمولية لا تسلطية فحسب. زاد الطين بلّة أنّه في تسعينيات القرن الماضي، ومن ثم ما بعد ربيع دمشق، نشطت منظمات حقوقية (غير مرخّصة)، تعرّض مؤسّسوها والفاعلون فيها للتضييق الأمني، ما حدّ من قدرتها على الاستمرار أو تحقيق تغييرٍ في القضايا التي نشأت لأجلها.
على التوازي، تُظهر نظرة واحدة على المجتمع المدني بعد 2011 جلياً أنّ عشرات المنظمات ذات التوجهات والنشاطات المختلفة فشلت في إحداث تأثيرٍ يتناسب مع حجمها وعددها وتمويلها، بل على العكس تماماً، أدّى كثير منها إلى ترسيخ المجتمع الأهلي ودعم البنى التقليدية القائمة. وعليه، كلّ ما يُقال عن مجتمع مدني "مؤثر" في سورية هو حالة من جهلٍ بأصل التعريف ومعناه، فالمجتمع المدني ليس تكتّلا من المنظمات التي تلبس، بهتاناً، لبوساً حداثياً، لأنها لم تتشكّل استجابة للتحدّيات القائمة، بينما يبدو تشكيلها سلطوياً فوقياً، فأول ما يحتاجه المجتمع المدني وجود فضاء مفتوح ينشط فيه حراك عفوي بدافع وطني، كما حصل إبّان كارثة الزلزال، في حين كان الحيّز السوري العام منغلقاً من السلطة وعلى السلطة نفسها. وبالتالي، لم تكن تلك المؤسّسات التي تدّعي المدنية سوى كانتونات هزيلة، مهمتها تدعيم سلطة الاستبداد، متحوّلة إلى مداجن لتفريخ "الشبّيحة" عند الحاجة.