الساعة العاطلة

22 ديسمبر 2024
+ الخط -

يحدُث وأنت مشغولٌ عن ساعتك الجسديّة، بخواتم شبابك أو كهولتك، أن تتدحرج إلى عند قدميكَ كُرَةُ قَدَم، في هذا الشارع أو ذاك، في هذه المدينة أو تلك، فتستبدّ بك شهوة اللعب، وتُطلق ساقك محاولاً إعادة الكُرَةِ إلى أصحابها، وكأنّك في العشرين. لكن هيهات! لم يعد جسدُك في مستوى طموحاتك الرياضيّة. عندئذٍ، تتناسى الأمر كلّه، أو ترفعُ صوت السخرية، أو تسأل: هل ثمّة أخطر من أن يكون الجسد شابّاً والروح هَرِمة؟ هل ثمّة أفدحُ من أن يهرم الجسد وتظلّ الروح شابّة؟

لكن، ماذا لو طرحتَ السؤال على جسدٍ أكبر، جسد البشريّة مثلاً؟ بماذا تُفسّر الشرخَ المتفاقم بين أنظمةٍ وزعاماتٍ ومؤسّساتٍ تشيخ فتتشبّث بالبقاء بقوّة السلاح والمال، وشعوب تهرم (في شبابها أو طفولتها) فإذا كأنّها في أرذل العمر؟ ألا يمكن القول إنّ ما تشهده البشريّة اليوم من وقوفٍ متكرّر على حافّة الكارثة، ناشئٌ من بين عديد الأسباب، عن هذا الزواج غير المتكافئ بين ما هو شابّ فيها وما هو مترهّل؟

قبل عشرين عاماً (في 16 ديسمبر/ كانون الأول 2004)، رحل الأديب محمود المسعدي، تاركاً "حدّث أبو هريرة قال"، و"السدّ"، و"مولد النسيان" وغيرها. قبل رحيله بمدّة، أجريتُ معه حواراً لبرنامج كنت أعدّه وأقدّمه للتلفزيون التونسيّ. كان قد تخطّى التسعين، شديد النحول، يتنفّس بصعوبة، لكنّه ظلّ واعياً، حاضر النكتة، تتّقد عيناه بحيويّة شابّ عشرينيّ. كنت أفاجئ بريق عينيه أحياناً فأكتشف فيهما شيئاً قلّما رأيته. شيئاً يقول إنّه أصبح فوق هذا وأبعد. لكأنّه يتحمّلنا لأنّنا أطفاله وقد حُرِمَ الأطفال. كانت عيناه تشعّان بنظرة من بات يعرف. نظرة من اطّلع على ما فات وعلى ما يأتي.

حاولتُ اختزال اللقاء رأفةً به، لكنّه أصرّ على الاستمرار. كان يغالبُ جسده دفاعاً عن كتابه الجديد "من أيّام عمران". لم يكن يخاطبني. كان يناضل من أجل صورةٍ تخاطب المستقبل. من ثمّ وُلِدَت تراجيديّةُ تلك اللحظة: كان الجسد يقول لصاحبه: "انتهى وقت اللعب"، وكانت الروح تطلب "وقتاً إضافيّاً". فجأة فهمتُ ما كنت أحدس به من دون يقين: ليست الشيخوخة سوى مرحلة بسيطة من مراحل العمر، إذا شاخ الجسد والروح معاً، لكنّها تصبح تراجيديا حقيقيّة، إذا شاخ الجسد وظلّت الروح شابّة، أو العكس.

أعود إلى السياق الأكبر: هل ثمّة أفدح من هذا الشرخ المتفاقم بين شباب الشعوب وشيخوخة الأنظمة؟ زعامات انتهى "تاريخُ صلاحيّتها"، برلمانات "أنتيكة". أحزاب "خردوات". حكومات في حاجة إلى إعادة نظر وتغيير برمجيّات. منظّمات باتت عبئاً على أسمائها: الأمم المتحدة. اليونسكو. جامعة الدول العربيّة. كيانات متقادمة، متهدّلة، متهالكة، رثّة، تتشبّث بالبقاء رغماً عن شعوبٍ شابّةٍ لم تعد تفهمها.

تبلورت هذه الظاهرة من خلال انتشار سرديّات مسمومة: الآن وفوراً! يكفي أن تصرخ كي تغنم! تكفي ضربة حظّ كي تنجح! كي تصبح نجماً! كي تكسب ثروة! لماذا الاجتهاد إذن؟ لماذا التعلّمُ؟ لماذا العمل؟ لماذا المقاومة؟ لماذا معارضة الاستبداد والفساد و"العمر أقصر من أن نضيّعه في النضال"؟! هكذا اقتُرِفَت واحدة من أبشع الجرائم على مرأى ومسمع: جريمة قتل مفهوم الزمن، كنايةً عن محاولة الالتفاف على تحصين الاستحقاق بالجدارة والكفاءة، المحتاجتين إلى الامتداد في الزمن.

في ذلك اليوم، بين اللحظة التي أكمل فيها فريق التصوير استعداده واللحظة التي ودّعتُ فيها الكبير محمود المسعدي، مرّت ساعاتٌ ثلاث، خرجتُ منها بحوار لا يتعدّى العشرين دقيقة. لماذا أشعر بأنّه كان أطول حوار أجريتُه؟ هل يرجع ذلك إلى إحساسي بأنّه لم يكن حواراً، بقدر ما كان "توثيقاً" لصورة الروح وهي تتمرّد على تداعي الجسد؟

لكن ماذا عن السياق الأكبر؟ هل ننتظر طلقة الرحمة من الجسد المترهّل نفسه؟ هل يمكن للشعوب أن تطلب الطلاق من مؤسّساتها ودولها؟ هل للشعوب سماء أخرى مختلفة عن سماء الدول؟ أم أنّ ما يحدث في العالم اليوم ليس سوى دليل على أنّ "العطالة" التي يمثّلها شباب الروح مقابل شيخوخة الجسد، ليست أقلَّ فداحةً من اصطدام شيخوخة الروح بفتوّة الجسد؟ تلك إحدى سمات تراجيديانا اليوم. ولكن هل الشعوب "شابّة" حقّاً؟ ألم تشخ الروح في الكثير منها، هي أيضاً؟ ألسنا نعيش على إيقاع ساعةٍ عاطلةٍ لدى الجميع، تحتاج إلى هزّةٍ جبّارةٍ كي تستأنف عقاربُها الدوران؟

شاعر تونسي ومترجم من الفرنسية.
آدم فتحي
شاعر تونسي ... وشاعر غنائي ومترجم من الفرنسية.