السجن وسيلةً للانتقام السياسي
في كل بلاد العالم، السجن فترة حرمان مؤقتٍ من الحرية، إلا في مصر والدول المحكومة بالطغاة، يصبح السجن حرمانًا من الحياة ذاتها وأداة للتصفية، سواء كان السجين محبوسًا احتياطيًا، أو محكومًا عليه بمقتضى حكم قضائي بات.
يصبح السجن أداة للقتل حين يكون هناك منع متعمّد للمسجون من العلاج، والحصول على الأدوية من خارج الأسوار، في حال لم توفرها له سلطات السجن، حتى لو كان السجين مرتكبًا أبشع الجرائم، فما بالك حين يكون الشخص محبوسًا ظلمًا، ولم يحظ بمحاكمةٍ عادلةٍ كما في آلاف، بل عشرات الآلاف من الحالات.
تطلق ابنة رجل الأعمال صفوان ثابت، أحد رجال الصناعة المصرية ذوي التاريخ الناصع، صرخة في البرّية، علها توقظ ضمائر تبلّدت، تعلن فيها أمام المجتمع أن والدتها وضعت على جهاز التنفس الصناعي، بعد أن خارت قواها وهي تقطع مشاوير يومية إلى السجن، حيث يقبع زوجها وابنها الأكبر محبوسين احتياطيًا، أو بالأحرى انتقاميًا، بعد أن استولت السلطات على شركتهما الناجحة، وصادرت أموالها، تنفيذًا لرغبة تنظيم عُصابي يُمسك بمقاليد السلطة، ولا يشبع من مصادرة حقوق الناس، طلب منه التنازل عن جزء من أصول الشركة لصالح كيان استثماري مملوك للحكومة، وحين رفض جرى عملية اعتقال الأب أولًا لإجبار الابن الذي ينوب عنه في إدارة الشركة للرضوخ، غير أنه رفض فلحق بوالده في السجن.
الآن، تأتي مرحلة الضغط بالتنكيل بالزوجة والأم، من خلال إنهاكها بمشاوير يومية إلى السجن تحاول فيها الاطمئنان على صحة الزوج (75 عامًا) أو إدخال حبّة دواء أو رداء يحمي من برد الشتاء، حتى سقطت من الإعياء لتعيش على جهاز تنفس صناعي.
قصة استخدام السجن أداة انتقام وتصفية مستمرة على مدار أعوام هي عمر هذه السلطة، وقد سجلتها عديد المنظمات الحقوقية الدولية والمحلية، استنادًا إلى بيانات استغاثةٍ من ذوي المسجونين، من مختلف الفئات العمرية والطبقات السياسية، بدءًا من الرئيس الشهيد محمد مرسي، حتى آخرين غير مشهورين، لكنك تجدهم في بيانات وإحصاءات الهيئات المعنية بحقوق السجناء، وحقوق الإنسان عمومًا.
مركز النديم لتأهيل ضحايا العنف والتعذيب في تقريره الشهري عن الانتهاكات في السجون ومقارّ الاحتجاز المصرية، رصد أربع حالات وفاة و18 حالة إهمال طبي متعمّد في السجون ومقار الاحتجاز المختلفة، خلال فبراير/ شباط الماضي، كما سجل المركز ثلاث وفيات و19 حالة إهمال طبي متعمّد في أماكن الاحتجاز الرسمية خلال يناير/ كانون الثاني الماضي، فضلًا عن خمس حالات تعذيب.
وفي تقريره السنوي لعام 2021، كان "مركز النديم" قد رصد 1530 حالة انتهاك مختلفة، من بينها 119 حالة قتل، و55 حالة وفاة في مقارّ الاحتجاز المختلفة، و48 حالة تعذيب فردي، و598 حالة تكدير فردي، و62 حالة تكدير جماعي، و201 حالة إهمال طبي.
بعيدًا عن البيانات، ما يقع أمامك يوميًا من نداءات وصرخات لإنقاذ حياة معتقلين ومحبوسين محرومين من الدواء يكفي دليلًا على أن الحبس صار انتقامًا مجنونًا، لا عقابًا قانونيًا، إذ يتصادف أن يكون التنكيل موجّهًا إلى سجناء الرأي والموقف، فيما لا يحدُث أن تصدر أية استغاثات من متهمين بقضايا فساد كبرى، أو جرائم جنائية.
أسرة الزميل الكاتب الصحافي عامر عبد المنعم، المحبوس احتياطيًا لأنه يكتب مقالات على "فيسبوك" عن مياه النيل، تتحدّث عن تعنت مستمر في إدخال جرعات الإنسولين له، حيث يعاني ارتفاعًا مزمنًا في السكّر، وصل إلى 600 كما تقول زوجته، نقلًا عنه، وتتساءل لمصلحة من كل مرّة تذهب لزيارته لإدخال أطعمة وأدوية وأنسولين لا يسمح لها بإدخال الأطعمة ونصف أدوية العلاج؟
منع دخول الإنسولين كان حاضرًا أيضًا في إعلان وفاة المعتقل أحمد عثمان، في "قسم ثاني المنصورة" بعد معاناته لليوم الثالث من ارتفاع في سكّر الدم، ونزلة معوية حادّة، مع حرمانه من دخول الإنسولين له أو دخوله للمستشفى لعلاجه.
قبل مشهد وفاة الرئيس محمد مرسي، إثر أزمة قلبية في قاعة المحكمة، كانت أسرته قد أصدرت بيانات متكرّرة بشأن ما يحدُث له من انتهاكات وما يتعرّض له من جرائم داخل مقرّ احتجازه، وأخطرها انتهاك حقوقه في خدمة علاجية تكفلها كل الدساتير والقوانين، ومنها أنه في يونيو/ حزيران 2017 تحدّث الرئيس لهيئة المحكمة مخاطباً الدفاع مجدّداً عن تعرّضه لحالتي غيبوبة سكّر كاملتين داخل مقر احتجازه من دون أن يعرض علي طبيب، وأنه يطلب نقله إلى مركز طبي خاص على نفقته الشخصية لإجراء الفحوصات الطبية اللازمة، للوقوف على أسباب هذه الأزمة الصحية، وطلب من هيئة دفاعه تقديم بلاغ إلى النائب العام لإثبات تلك الجريمة.
يحدُث ذلك كله في دولةٍ تبني سجونًا بحماس أكبر من بناء المستشفيات، وتتفاخر بأنها أنشأت أكبر سجن في العالم، وكلما حدّثها أحد عن حقوق الإنسان، ردّت كما لو كانت صاحب مزرعة يتكلم عن قطعانٍ من الماشية.