السقوطُ الكرنفالي في الثقب السوري الأسود
استهلالٌ دلالي، لا بدّ منه، يجب وضعه نصب أعيننا عند مقاربة الواقع السوري الراهن، وهو ما دوّنته الصحافية الفرنسية كارولين دوناتي في كتابها "الاستثناء السوري، بين الحداثة والمقاومة"، أن "سورية بلد غامض. ثقبٌ أسود في العلاقات الدولية. فيه تتجمع كلّ الخيوط، إنما لا ندري أين تذهب أو كيف ستخرج منه؟، ولا نعرف عن حاكم هذا البلد سوى قدرته الاستثنائية على الاستمرارية رغم كلّ الظروف".
لا يمكن أن تدلّ هذه المقدمة الإشكالية في أشدّ معانيها إبهاماً إلا على مزاجٍ سياسي صريح، جعل نظام الأسد محمياً من مغبّة السقوط المدوّي في هاوية النسيان عقوداً خمسة، لأنه ببساطة ثمرةُ مجموعةٍ من القوى والبواعث المختلفة في طبيعتها، المتفاوتة في درجة تأثيرها، جعلته عالماً مافياوياً تجاوز التقولب وفق نموذج مطلق، معتمداً مفهوم الطغيان من زاوية صفتَي "القهر والجبر". عزّزتْ سطوتَه واكتسابَه صفة "القداسة" عملياتُ التدجين الرمزي والتلاعب الخطابي، وأيضاً الاستثمار في التصدّعات الطائفية والإثنية، والدحض الكامل لأيّ سرديةٍ تجعل منه مسبّباً للأزمات المزمنة والحروب الملتهبة. وعليه، فاق التدمير المجتمعي الممنهج الخيال والوصف. والحديث ليس إنشائياً، على الإطلاق. تتحدّث الأرقام والوقائع عن غياب الدولة الوطنية، وظهور منظومة فساد عميقة الجذور، سمحت بإعادة تدوير مفهوم المواطنة والانتماء، لإغراق السوريين في مستنقع الهويات ما قبل الدولاتية المغلقة، فتبقى مجالاً لتلاعبات السلطة وضمان استمراريتها. هكذا بدأت جاهلية حديثة عملت على إخفاء سوء النيات وراء المعسول من الكلام والخطابات، في وقتٍ راحت تتبدى فيه الدولة الأسدية، ظاهرها وباطنها، كدولة احتلال إزاء ما يُفترض أنه شعبها، ولعلّ هذا ما يفسر انعدام حساسيتها، ليس السياسية والقانونية فحسب، وإنما حتى الأخلاقية، إزاء قتلها مواطنيها.
وبالعودة إلى الانقلاب البعثي الشهير عام 1963، وعلى الرغم من استحالة تقديم تنبؤات مستقبلية جادّة آنذاك (غالباً ما يكون التغيير السياسي الحاد مفاجئاً تماماً في بلادٍ منهكة، مستقلة حديثاً تتقلب على نير الانقلابات العسكرية المحتدمة)، إلّا أنّ هذا الانقلاب كان إيذاناً ببدء مرحلةٍ جديدة في سورية، سيقودها نظامٌ هجين غريب، لا هو بالرأسمالي على الطريقة الغربية، ولا هو بالاشتراكي على الطريقة الشرقية، إنما هو، في جوهره، ماكينة أمنية عنفية، بخطابٍ ريفيٍّ انفعالي لاعقلاني متسم بالديماغوجيا والذرائعية في آن واحد، وبنكهة براغماتية خالصة تختلط فيها مصلحة الأمة مع مصلحة الحاكم والحلقة الضيقة حوله. هكذا حسمت الشعبوية، أخيراً، معركتها ضد الوعي المدني وتقاليده، لتمثّل تراجعاً عن المكاسب العقلانية والتنويرية النسبية التي ورثتها البلاد من مرحلة نهضتها الحديثة.
استحالت الكارثة السورية إلى مجرّد صندوق بريد لتبادل الرسائل السياسية المبهمة
عملياً ما ضمن تماسك نظام الأسد واستمراريته تمترسُه وراء أشهر المسرحيات العبثية السوداء، أي نظرية "المؤامرة الكونية ضد سورية"، التي فُسّرت مؤامرةً تهدف إلى إسقاط النظام شخصياً، لأنه يهدّد الوجود الإسرائيلي بما يملكه من "حكمة وممانعة وصفات قيادية". كانت هذه المسرحية ذريعة فجّة وغير مبرّرة بغرض تسييس المؤسّسة العسكرية، لتكون النار التي ستلتهم قوى المجتمع المدني والقيادات الفكرية والسياسية، ما فرض على زعامات الأحزاب البحث عن آليات جديدة للسلطة، فوجدتها في البنى والروابط التقليدية ما قبل الوطنية التي قدّمت نماذج صارخة لأنظمة حكم توتاليتارية. في السياق، ارتكزت سياسة نظام الأسد الخارجية على استراتيجية الموازنة بين المصالح المتناقضة للدول، ليتحوّل بفضلها إلى نظام وظيفي أخطبوطي، يعبّر عن نفسه بالخدمات التي يقّدمها. وتنقّلت سياسته المافيوية بين "الممانعة" والبراغماتية غير المستندة إلى مبادئ راسخة تتعلق بالمصالح الوطنية، وحقّقت هذه الآلية شكلاً من الاستقرار الداخلي "السلبي" غير المنتج للتقدّم في أيّ مستوى.
زاد الطين بلّة توظيف العقوبات الاقتصادية والحصار الدولي في خطاب النظام الموجّه إلى الداخل، ما منحه القدرة على تكييف استراتيجياته في السيطرة المطلقة. لذلك، لا يجد اليوم حرجاً من سرقة المعونات، واستغلال الأزمات الدولية، والكوارث الطبيعية لإعادة تأهيل نفسه، مستفيداً من علاقاتٍ نفعيّةٍ ودور وظيفي يقوم به من خلال اللعب على التوازنات والمتاجرة بالشعارات. لعلّ أدلّ مثال على هذا كارثة زلزال شباط/ فبراير المنصرم، التي أظهرت تعقيدات الديناميات الداخلية للنظام وهشاشة الأجهزة الحكومية كفاعلين في أعمال الاستجابة. ووسط الأنقاض وتكدّس الجثث، كان الأسد يترقّب إشارات الدول الأكثر تأثيراً في الأزمة السورية، آملًا الخروج من عزلته وشرعنة نظامه الاستبدادي بعيداً عن مصالح شعبه المنكوب، الذي ينتظر تفعيل قرارات مجلس الأمن لضمان عملية انتقال سلمي، ولكنّ هذا الانتظار لم يكن في مكانه، للأسف، إذ استحالت الكارثة السورية إلى مجرّد صندوق بريد لتبادل الرسائل السياسية المبهمة. وهكذا، يمكن اعتبار الزلزال بمنزلة اللحظة التحوّلية لإعادة التفكير في مفهوم السيادة والشرعية والذهنية العقيمة سياسياً وإنسانياً لنظامٍ تجاوز كلّ حدود الإجرام.
إنّ نظاماً شمولياً متلاعباً كالنظام السوري الذي ما زال يتمسّك بأيديولوجيا منهزمة، فكراً وأخلاقاً وقيماً وحضارة، آيلٌ إلى السقوط عاجلاً أو آجلاً
وفي الحقيقة، الصراع على أحقّية سيادة المنطقة هو الذي يفسّر العداء المرضي الذي وسم علاقة نظام الأسد مع الداخل والخارج، فهو يستخدم خطاب الواقعية السياسية عندما تكون لخياراته عوائد ايجابية واضحة، ويلجأ إلى خطاب المثالية الأيديولوجية القومية عند انعدام النتائج الملموسة. وليس ثمّة شك في أن هذا النظام يعاني ضرباً من الانفصام بين الواقع والمثال، ولا يدري أنّ نقطة النهاية بدأت "فعلاً" عندما تحوّلت السلطة إلى هوسٍ مرضي، قائم على نزعة طائفية انتقلت من الاجتماعي إلى السياسي، لتغدو "عقيدة أيديولوجية" أدّت بالضرورة إلى تقسيم المجتمع وتحوّله إلى كانتونات حاقدة ومتحاربة، فمنطق الحياة لم يعد يقبل استمرار صيغةٍ توفيقيةٍ مفتعلة لواجهة ديمقراطية ترتكز على شكلٍ زائف من المؤسسات العصرية، المستندة، في الوقت نفسه، إلى جذر استبدادي في صورته الأصلية. على العكس تماماً، الاستبداد مفروضٌ تحت وطأة شروط وظروف قابلة للتغيير إذا ما توافرت قوة الدفع المناسبة. لنتذكّر أنّ أكثر مشاهد الانهيار خطورة وإثارة انهيارُ الشمولية السوفييتية التي كانت مُندفعة بالنقاء الأيديولوجي المرتبط بالماركسية، سبقها إلى ذلك تداعي الشمولية الفاشية والنازية، وهذا بالطبع ليس ظاهرة فريدة في التاريخ الذي يحكم بالموت على النظم الشاذة التي تقف عائقاً أمام التقدّم، عبر تفتت الأيديولوجية اللاحمة لهذه البنى الاستبدادية. وبطبيعة الحال، قدوم أي ديكتاتور إلى السلطة، كما رحيله عنها، مرتبطٌ بنوع من الإخراج المسرحي والطقوس الكرنفالية. أوهام بطولية ونرجسية مريضة مليئة بالعناد والتبجّح، ثم المزاوجة بين ملهاة الخطب العصماء والانتهاء إلى مأساة تصفية الطاغية بأبشع الطرق.
قصارى القول، أنّ نظاماً شمولياً متلاعباً كالنظام السوري الذي ما زال يتمسّك بأيديولوجيا منهزمة، فكراً وأخلاقاً وقيماً وحضارة، آيلٌ إلى السقوط عاجلاً أو آجلاً، ويبدو أنّ الثقب الأسود يزداد اتساعاً يوماً بعد يوم ليبتلع بشّار الأسد نفسه، الذي لا يتوانى عن ممارسة الحكم بمنطقٍ تسلطي بمنتهى التشدّد والأصولية، إلى درجة أنه أنتج حكماً عسكريتارياً فاق، ببشاعته وفساده وفجوره، نظام أبيه العسكري بامتياز. هو الذي لا يزال يؤمن بأنه كائن فوق طبيعي يقترب من الأسطورة، وأنه يملك قدراتٍ غيبية لينبعث من جديد. وعليه، لم تزل تخدعه الشعارات الرنانة، وتُسكره النعوت الخلابة، فيعتقد، واهماً، أنها سبيله الوحيد للبقاء وفرض إرادته على العالم.