السلطة التي لا ترى أو تسمع
في أكثر من مناسبة جمعتني مع جمهور أوروبي صادف أن يحضر مسؤول عراقي، سفير أو قنصل يعمل في السفارة العراقية في ذلك البلد، وكانوا في غالبيتهم مهذّبين، ويعبّرون، أمام الجمهور الأجنبي، عن افتخارهم بي أديبا وكاتبا أمثّل العراق. ولكن بعضهم يفاجئه رأيي عن الأوضاع السائدة في البلد، ودور النخب السياسية والاجتماعية في سوء الحال، والأخطاء التي يرتكبها المسؤولون العراقيون، أو انحيازاتهم الحزبية والطائفية التي أضرّت بمصالح البلد والمواطنين، فتراهم يطلبون المايكرفون ليردّوا على كلامي، ويدافعوا عن عمل الحكومة وعن النظام. وفي بعض الحالات، كان يمكن أن يتطور الأمر الى مساجلة ثنائية بيني وبين السفير، ولكن صورتنا العامة أمام الحضور ستبدو محرجةً وسلبية، لذلك كنت أكتفي بتعليقات عامة.
ربما يكون هذا السفير أو القنصل يمارس وظيفته بالدفاع عن الحكومة التي عيّنته في منصبه، ولكنه يخطئ تماماً حين يتصوّر أننا، هو وأنا، في مركب واحد، ونمثّل جهة واحدة، ويخطئ أيضاً حين يتصوّر أن ما يعتقده هو الصواب، وأن من يخالفه الرأي لا بدّ أن يكون مغرضاً ويعمل ضد مصالح بلده!
يتعدّى الأمر الآراء الخاصة لهذا المسؤول أو ذاك حين يتحوّل الى حالة سائدة لدى مسؤولين عراقيين كثيرين، خصوصاً الذين يشغلون مناصب عليا حسّاسة، فيغدو أي ناقد لهم ولعملهم مجنّدا لدى جهات خارجية تعمل ضد البلد. والمسؤول هنا يساوي بين نفسه والبلد، كما يفعل كل المستبدّين قبله، وكلّ العراقيين يتذكّرون الشعارات التي كانت تُخط على جدران المدارس في زمن النظام السابق، ومنها عبارة شائعة: إذا قال صدّام ... قال العراق.
لا يريد هذا المسؤول أن يرى أن المثقف لا يمثّل دائماً مصالح النظام، وأنه، في الأصل، يجب أن يكون صوتاً لمصالح عوامّ الناس من المواطنين ممن لا يملكون منصّة يدلون من خلالها بآرائهم. ويمثل، كما يفترض، مصالح الفئات المهمّشة والمقصية. وباختصار؛ أنه، وكلّ من يملك القدرة على مدّ الصوت في فضاء أوسع من المجالس الخاصة، من وظيفتهم أن يكونوا مزعجين لخدر السلطة وطمأنينة تصوّراتها عن نفسها وعن المجتمع. وأن هذا الصوت المزعج مصدر أساسي لتطوّر النظام والمجتمع.
ولكن، ماذا يفعل بعض المسؤولين العراقيين؟ يجنّد حساباتٍ إلكترونية وهمية لشنّ حملات على المثقفين والإعلاميين الذين يكتبون آراءهم بحرية، لتشويه صورهم في الرأي العام، ويختلق تهماً مجانية، أو يستكتب أقلاما مأجورة لاختلاق قصّة ما مليئة بالتأويلات المضحكة لإثبات أن هذا الكاتب عميل للماسونية العالمية مثلاً!
المشكلة العميقة أن هذا الصّمم والعمى الاختياري الذي يغلّف المسؤول العراقي نفسه به يمكن أن يودي به وبالبلد إلى الهاوية. بينما الإنصات للآراء الناقدة سيقلل كلف العمل لإصلاح الأخطاء والكوارث التي يراكمها النظام السياسي في العراق منذ عشرين سنة.
في سبتمبر/ إيلول 2019 جمعتني جلسةٌ مع جمهور إسباني في معهد الثقافات الثلاث في مدريد، سألني أحد الحضور عن مستوى الحرّيات في العراق، وهل هو في تراجع أو تقدّم، فقلت رأيي بصراحة؛ إن الحريات تراجعت منذ سبع سنوات بشكل مريع، ومنشورات لي على "فيسبوك" تظهر لي بالذكريات من عشر سنوات، ولا أستطيع إعادة مشاركتها، لأنها تمثل عبوراً على الخطوط الحمر اليوم. وهنا انتفض مسؤول عراقي كان حاضراً في الجلسة للردّ على كلامي، وأن الحريات مصونة و"الدنيا ربيع .. والجو بديع".
المفارقة أنه بعد أسبوعين تقريباً اندلعت أكبر حركة احتجاج في تاريخ العراق المعاصر [احتجاجات تشرين 2019] وفجّرت في وجه النظام السياسي العراقي قنبلةً من كبت الحريات، وكان رد النظام عليها، كما هو متوقّع، الإعدامات الميدانية في الشوارع والقنابل الدخانية التي تخترق الرؤوس. وكان واضحاً أن النظام فوجئ بما حصل، لأنه بالأساس لم يكن يُنصت أو يرى ما يحدُث، لأنه كان مشغولاً بتخوين كل من ينتقده، بدل التعامل الجدّي مع كلامهم.