السنوار إذ يرتجل الخطابات السياسية
خطباء الجمعة يرتجلون؟ نعم. الوعّاظ يرتجلون؟ نعم. الشعراء يرتجلون؟ نعم. السياسيون يرتجلون؟ قد يفعلون، لكن عليهم أن يتحملوا كامل المسؤولية عما يقولون. وعلى الجهات التي يتحدّثون باسمها أن تكون على قدر المسؤولية فتتحمّل النتائج، فإن أخطأ سياسيوها المصرّون على الارتجال، عليها أن تسارع إلى تصحيح الخطأ، فالحقّ أحقّ أن يتّبع. ولطالما قيلت في البرلمانات الحكومية عبارة "تشطب من محضر الجلسة" لعدم لياقتها. على تلك الجهات التي تعرف، في قرارة نفسها، ضرورة ضبط الكلمات في المنعطفات الصعبة، ولكنها غير قادرة على إرغام سياسييها بالانضباط، أن تبادر إلى تأكيد مواقفها التاريخية والأيديولوجية، ولا تسمح في لحظة انفعال من سياسي (مهما علا شأنه) أن تُقحم في مواقف لم تقبلها يوماً فضلاً عن أن تدافع عنها.
يرى سياسيون موتهم في أن يقرأوا خطاباتهم السياسية عن أوراقٍ مضبوطة الكلمات والمعاني والحركات. وكأن توصيل المعنى عندهم مرتبط ضرورة في إطار التحرّر من النص المكتوب. هذا ممكن، ولكنه عند قلة قليلة محترفة، فطريق الارتجال أثبت، في محطّات عديدة، لا سيما الحساسة منها، خطأه. من شأن صاحبه أن يوقع الجهة التي يمثلها في مطبّات سياسية وقانونية ودعائية كانوا في غنى عنها بالتأكيد. كان بالإمكان تجنّب تلك المطبّات المتوقعة، لو كان هناك نص أو كانت هناك محاسبة على الخروج عن النص. أما في حضرة الغياب نصاً ومحاسبةً فإن مزيدا من الهفوات والزلات سيتوالى.
ولرئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، يحيى السنوار، كاريزما لا ينكرها إلا ضعيف بصر، رضي بذلك بعض الناس أم غضبوا، هذا مما صنعته الأيام وراكمته طبيعة الدور عبر المراحل. وقد ثبت أن الاحتلال الإسرائيلي يأخذ كلامه على محمل الجد في مواقف عديدة احتاج فيها الشعب الفلسطيني إلى فصل الكلام، وهو ما جعل لهذه الشخصية أهميةً مقدّرة. سوى أن دوام الهيبة والاحترام مرتبطان تماماً بالمصداقية والعقلانية في آن واحد، فلا يمكن المحافظة على رأس المال هذا إذا اختلّت المصداقية أو خرج صاحبها عن حدود المنطق. العام الماضي عندما أنذرت الاحتلال بكفّ يده عن الأقصى وحي الشيخ جرّاح في القدس ولم يفعل، أوفت المقاومة بوعدها وعاجلته بما رآه شعبها واجباً مستحقاً، ما رفع أسهم "حماس" وفصائل المقاومة وثقّل موازينها محلياً وإسلامياً. وكذا هذه المرّة عندما خرج السنوار وتوعد الاحتلال إذا ما أقدم على بعض الممارسات غير المألوفة والمتعلقة بالتقسيمين، الزماني والمكاني، للأقصى. وقد أثمر ذلك ورأى الناس تجلياته على الفور، وهو ما يسجّل للمقاومة وقادتها.
إذا لم تكن الوعود مرتبطةً بالممكنات سياسياً وفنياً، فمن الأجدى عدم التطرّق لها في الخطابات أو تركها مفتوحة للزمن
بمعزل عن تلك النقطة المتعلقة بأسلوب الخطاب الإعلامي وضرورة التفريق الحتمي بينه وبين الخطاب الحربي ومقتضيات كل منهما، رسائل عديدة في خطاب السنوار أمام حشد في غزة، في 30 الشهر الماضي (إبريل/ نيسان) التقطها الاحتلال ومن يهمه الأمر، وكانت موفقة بامتياز. بيد أن سقطاتٍ عديدة خرجت في إطار الانفعال، خلافاً لنهج المقاومة عبر تاريخها الذي عمّدته بتضحياتها الجسام. فأن يقول السنوار إن "من من يتخذ قرار استباحة الأقصى يعطي قراراً باستباحة الكنس اليهودية في العالم أجمع" هو مخالفة صريحة لنهجٍ مجمعٍ عليه لم يقع الإخلال به، رغم مرور المقاومة في محطّات عديدة معقدة وباهظة الثمن. وعلى الرغم من أن مقولته تحتمل التأويل، وتأتي في سياق تحذيره من حربٍ دينية ربما تجتاح المنطقة بأكملها، إلا أن استخدامها الاحتلال وأدواته الدولية النفعي لها، وما يترتب على ذلك سياسياً وقانونياً وأخلاقياً أو على استخداماتها من آخرين، تعاكس عقلاً مصلحة المقاومة و"حماس" ولا تصب في صالح الشعب الفلسطيني في أي حال.
تتعلق النقطة الثانية بما قيل عن تدشين خط بحري بالتنسيق الكامل مع "محور القدس" حتى نهاية هذا العام ورفع الحصار وإنهاء المعاناة، فعلاوة على أن وعد رفع الحصار، حتى نهاية العام الفائت، أو "حرق الأخضر واليابس" صدر عن السنوار نفسه في مؤتمره الصحافي في أعقاب معركة سيف القدس ولم يحدُث، فإن تكرار هذا الوعد ووضع سقف زمني آخر هو إخلال بالمصداقية مع الشعب الذي ينتمي إليه، وإضعافٌ للهيبة أمام العدو المتربّص به، وتقليل للاحترام أمام المراقبين. إذا لم تكن الوعود مرتبطةً بالممكنات سياسياً وفنياً، فمن الأجدى عدم التطرّق لها في الخطابات أو تركها مفتوحة للزمن، فلا يعقل إطلاق الأعنّة لمزيد من الوعود من دون أن يرى الناس كيف يمكن تحقيق ذلك سلماً أو حرباً. عدا عن عدم إمكانية خوض معركة كسر عظم مع الاحتلال على هذه الصخرة المستعصية، فإنّ هذا الوعد يضاف إلى وعود أخرى لا تحمل أي رصيدٍ من حيث الخطط أو حتى القدرات. الغموض الذي رافق هذا التعهد، لا سيما في الظروف الراهنة، يجعل منه غير ممكن سياسياً ولوجستياً، أو حتى عسكرياً، إلا إذا كنا نتحدّث إن ذلك سيكون نتاج حرب إقليمية مخطط لها، وهذا بعيد المنال بحسابات السياسة. وبالتالي، الأوْلى العمل على ذلك بصمت، ولْيَدع السنوار الناسَ يرون الأفعال، لا أن يجعل ذلك موضوعاً للتندّر.
تنويه يتعلق بتوضيح المواقف من بعض ما ورد في الخطاب، إن تمّ، أمر يستحقّ الإشادة ويقطع، للحاضر والتاريخ، الطريق على المتصيّدين في الماء العكر
تتعلق النقطة الثالثة بالرقم 1111. صحيح أن رشقة صواريخ بهذا الحجم والقدرة على تنفيذها تحمل دلالة غير خافية، إلا أن ربط ذلك ببعدٍ رمزي محدّد كان في حاجة إلى وقفاتٍ ومراجعات، فمن غير المرجّح أن يكون هذا الترميز على هذا النحو هو الطريق الأقرب إلى المصالحة الفلسطينية الداخلية. ولا أظن أن سالفةً على هذا الشكل كانت تستحق "التلغيز" عاماً كاملاً! أما إذا كان ذلك في إطار حسن النيات وكسب الود، وبالتالي لا بأس من بعض المجاملات، فهناك سبلٌ عديدة كان من الأجدى سلوكها على هذا الصعيد. ومع ذلك، إن لم يكن للحيلولة دون جعله موضوعاً للغط يسري بين شُهّاد المرحلة (ما زالوا أحياء)، فإن الطريق إلى تكريس رمزية حملت في تاريخها ما يُتفق معها ويُختلف يجعل من الضرورة، على الأقل، أن تُترك للتاريخ كي يفعل فعله ويسجل فيها كلمته وشهادات الناس، لا أن يُحسم الموقف منها هكذا من دون أن يُستنطق التاريخ.
أخيراً، وقْع خطاب السنوار على الاحتلال وتهديدات الأخير باغتياله يؤكّدان أن الكاريزما الموسومة بالهيبة هي رأس مال وطني، وهي سلاح استراتيجي تعبويّ يجب الحفاظ على مصداقيتها وعقلانيتها في آن، لا أن يُقضم خطأً من رصيدها شيئاً فشيئاً. بيد أن تنويهاً يتعلق بتوضيح المواقف من بعض ما ورد في الخطاب، إن تمّ، أمر يستحق الإشادة ويقطع، للحاضر والتاريخ، الطريق على المتصيّدين في الماء العكر.