السنوار وحرب الصورة والعنف المقبل
اكتسى مقتل قائد حركة حماس، يحيى السنوار، بسمتَين متوقّعتَين. الأولى، حال الترميز والأيقنة بين أوساط محبّيه والشارع العربي عموماً، كما تجلّى في كتابات وسائل التواصل الاجتماعي، والتحليلات السياسية، وحتّى في تعليقات معلّقين إسرائيليين قالوا إنّ "السنوار بنظر كثيرين سيكون قائداً مات وهو يقاتل حتّى أخر رمق". الثانية، المشهدية التي صوّرتها إسرائيل لقتله، بإظهار جثمانه على الأرض عند أقدام جنود إسرائيليين، وحتّى مقاطع فيديو نشرها الجنود تظهر العلم الإسرائيلي إلى جانب جثمان زعيم "حماس"، الذي اعتُبر المطلوب رقم واحد منذ 7 أكتوبر (2023)، وصور رئيس حكومة الاحتلال، نتنياهو، يتبادل الأنخاب مع أركان حكومته. إذاً، هي حرب الصورة بامتياز، في تناقض حادّ بين المشهدَين، في حين تسعى الصورة الإسرائيلية إلى إعلان النصر، وبثّ الهزيمة لدى الفلسطينيين ومؤيّديهم، وإنْ كانت نجحت بين بعض الأوساط للإشارة إلى أنّه آن الأوان لإنهاء ما يجري في غزّة، بأثمانها المدفوعة غالياً.
تكرّرت مثل هذه المشهديات ذات الهدف السياسي في حوادث سابقة، فحين أعلن الأميركيون في يونيو/ حزيران 2006 مقتل زعيم القاعدة في العراق، أبو مصعب الزرقاوي، عبّر قائد القوات الأميركية آنذاك، جورج كيسي، وبحضور رئيس الوزراء حينها، نوري المالكي، برفقة السفير الأميركي زلماي خليل زاده، بدت صورة كبيرة للزرقاوي ميّتاً ومسجّى خلفهم. عملية أيقنة الزرقاوي بدأت بعد مقتله، حتّى بين أوساط بعض معارضيه في مناطق مختلفة.
في العام 2003، وتحديداً في مارس/ آذار، وحين اعتقلت الولايات المتّحدة العقل المدبّر لهجمات 11 سبتمبر (2001)، خالد شيخ محمّد، أعادت نشر صورة له في ثوب أبيض ناصع، يعتمر شماغاً، بلحية مزيّنة، وقد رصدت الأجهزة الأمنية أن صورة شيخ محمّد كانت إيجابية بين أوساط الشبّان المسلمين، ونشرت بالتالي صورةً له في ثوب داخلي بقَبّة واسعة وشعر أشعث وعيون قلقة خائفة، لتوازي (أو تضاهي) صورته الأولى. بعدها بشهور تسعة، اعتقلت القوات الأميركية، الرئيس العراقي السابق، صدّام حسين، وتعمّدت إظهار أول صوره أشعث أيضاً، وبلحية طويلة، يفحص طبيبٌ أسنانه، قائلة إنّه "كان يختبئ في حفرة". اليوم، صور صدّام حسين تلصق على زجاج سيارات الشبّان في الأردن، وعلى أغلفة أجهزتهم الهاتفية، لا بلّ بعض مغاسل السيّارات في عمّان، وقد يعلق واحدهم داخل سياراته مُعطِّراً يحمل صورة الرئيس السابق بعد كلّ غسلة لسيارته.
الصور الواقعية تبثّ الإحباط والغضب والشعور بالهزيمة، لكنّها تعيد إنتاج السنوار بطلاً مقاوماً
في حرب الصورة، صور واقعية تبثّ الإحباط والغضب والشعور بالهزيمة... نعم، لكنّها تعيد إنتاج المقصود بالفعل (السنوار هنا) بطلاً مقاوماً، وتغذّي صورةً مضادَّة، تمنح معنىً للغضب، وتحوّله فعلاً سياسياً عنيفاً، وليس بالضرورة أن ترتبط في هذه المرحلة بأطرٍ تنظيمية، ولن يكون من المُستغَرب أن يكون الشابَّان الأردنيَان، اللذان تسلَّلا عبر الحدود الأردنية مع الأراضي الفلسطينية المحتلّة عبر البحر الميّت، واشتبكا مع جنود إسرائيليين (تشير تقارير إلى وجود شخص ثالث معهما عاد أدراجه إلى الأردن)، قد عجّلا بعمليتهما بعد مقتل السنوار. السرديات التي أنتجتها المقتلة البشرية في غزّة، بصورها، ولجانها الإلكترونية، وما نشهده واقعاً، تغذّي خطابَ الغضب والاحتقان، وهو ما يدفع إلى تزايد عمليات العنف السياسي مرحلياً، وفي ظلّ تراجع القدرات العسكرية لمنظّمات مسلّحة مثل حركة حماس وحزب الله. وفي ظلّ تلك الصورة والأيقنة للفعل المُقاوِم، ستعيد المجموعات الجهادية (الأبرع في استغلال تلك السرديات وتوسيع قواعد تجنيدها) الظهور عربياً. أجل، مثل تلك المجموعات ضُرِبت شبكاتها بقوّة، في أكثر من منطقة، وانزوت إلى القارة الأفريقية، لكن تلك المجموعات بناها عربية، وهذا ما تكرّر تاريخياً، كالخروج من أفغانستان إلى طاجيكستان والشيشان، منتصف التسعينيّات، ومن هؤلاء من خرجوا من الجزائر، التي كانت جبهةً مشتعلةً، ليعود الزخم والتجنيد إلى العراق بعد الاحتلال الأميركي عام 2003، وكذلك الحال بعد الحرب الشيشانية الثانية، عاد بعض الجهاديين إلى اليمن، الذي كان يشهد تصاعداً للجهاديين بشكل واضح، ومن ثمّ برزت سورية، التي شهدت (مع العراق) ظهور أكبر التنظيمات المروّعة خلال التاريخ المعاصر؛ تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)".
نعم، الحالة الفلسطينية تستدعي فهما مختلفاً، وخصوصية تختلف عن بقية المناطق، لكنّها أيضاً، في الوقت نفسه، تبقى قضيةً مركزيةً لدى شبّانٍ كثيرين في المنطقة العربية وخارجها، وغياب البدائل التنظيمية تترك فراغاً، سيعبّأ بشكل عنيف يشغل المنطقة سنوات قادمة. لا، بدأ يشغلها حالياً مع أجيال جديدة، تبحث عمّن يجيب عن أسئلتها المُحبَطة والغاضبة.