السودان .. ثورة مستمرّة على نظام هجين
لم تتوقف الاحتجاجات والمظاهرات في السودان منذ ثورة 19 ديسمبر (2018)، وإنْ خفّت حدّتها ووتيرتها، بعد ولادة المجلس السيادي، نتيجة توقيع الاتفاقية الانتقالية بين المجلس العسكري وقوى إعلان الحرية والتغيير، في حين دفع تدهور أوضاع البلد الاقتصادية وانهيار أوضاع المواطنين المعيشية حتى الحضيض إلى استعادة زخم الاحتجاجات الشعبية في الأيام القليلة الماضية، إذ بات شبح المجاعة يهدّد غالبية السودانيين، بسبب الأزمات الاقتصادية المتلاحقة، المؤدية إلى شبه اختفاء المواد التموينية والمحروقات من الأسواق، بسبب انهيار سعر صرف الجنيه السوداني، ونتيجة إقدام الحكومة السودانية على تعويم الجنيه مقابل الدولار، وهو ما أدّى إلى حدوث تهاوٍ في قيمة العملة المحلية بلغت نحو 582%، كما أن التضخم تجاوز 300%. لم تحتج السلطات السودانية كعادتها إلى تفكير كثير في مطالب المتظاهرين، مسارعةً إلى ممارسة دورها الذي تتقنه جيداً في ملء أفواه السودانيين الغاضبين والجائعين بقنابل الغاز المسيل للدموع، وإلى معالجة أجسادهم المنهكة بشتّى أنواع القمع والضرب.
ما يميز الاحتجاجات الحالية عن سابقاتها توجهاتها التي تناوئ مجمل المجلس السيادي بشقيه العسكري والمدني المتمثل بقوى إعلان الحرية والتغيير، فعلى الرغم من قيادة هذه القوى الشارع السوداني في أثناء الثورة على حكم الرئيس عمر البشير، إلا أنها اليوم جزءٌ من نظام الحكم الجديد، بعد توقيعها الاتفاق مع المجلس العسكري بقيادة الفريق عبد الفتاح البرهان في أغسطس/ آب 2019. وطبعاً، لا يخلو التوصيف السابق من المبالغة، بحكم الواقع السياسي السوداني الذي يكشف عن موضع قوى إعلان الحرية والتغيير الحقيقي اليوم، مجرّد غطاء يحجب تفرّد المجلس العسكري في إدارة شؤون الحكم، ويعمل على منح المجلس شرعية الشعبية من جهة، وأفريقية من جهة أخرى، كون الاتفاق السوداني تم بوساطة الاتحاد الأفريقي، إذ لم يلب المجلس السيادي مطلب الشعب السوداني، كما لم يف بوعوده وتعهداته، بل على العكس، أعاد البلاد خطواتٍ إلى الوراء، في مختلف النواحي السياسية والسيادية والاقتصادية، إضافة إلى الحريات العامة.
لم يستطع المجلس السيادي الدفاع حتى عن الاسم الذي اختاره لنفسه، إذ انتهكت السيادة السودانية مراراً من الجيش الإثيوبي
وفي 23 أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي، وقع السودان ما بات يعرف بالاتفاق الثلاثي، السوداني الإسرائيلي الأميركي، ناسفاً مبادئ (وانتماء) السودانيين الرافضين الاعتراف بإسرائيل، وتطبيع العلاقة معها. لذا على الرغم من جراحهم ووضعهم الاقتصادي السيئ خرجوا في مظاهرات عديدة، رافضة أي اعتراف أو علاقات مع إسرائيل. وجاءت المظاهرات منسجمةً مع موقف الحزب الشيوعي السوداني، وموقف علماء الإسلام في السودان. استغل البرهان، ومن ورائه المجلس السيادي، برعاية إماراتية واضحة، أوضاع البلاد من أجل تمرير الاتفاقية التي تعتبر الأسوأ بين كل الاتفاقيات العربية الموقعة مع الكيان الصهيوني، فبدلاً من أن يدفع للحكومة السودانية ثمن تنازلاتها وتوقيع الاتفاقية، قامت هي بدفع خاوة مقدارها 335 مليون دولار مقابل رفع اسم السودان من قائمة الإرهاب الأميركية. وقد برّر البرهان ورئيس الحكومة، عبد الله حمدوك، موقف المجلس السيادي، ودافعوا عن توقيع الاتفاقية ودفع الخاوة بوعود فارغة، مثل قدرة السودان على العودة إلى المجتمع الدولي، مدعوماً بالولايات المتحدة، ما سيساعد على جلب الاستثمارات الضرورية من أجل دفع عجلة الاقتصاد.
إذ تنقلنا الفقرة السابقة إلى دور المجلس العسكري الاقتصادي، وبالتحديد إلى مفهوم دوران العجلة الاقتصادية الذي يتحدّث عنه كثيراً، فإنها عجلة ذات شكل مثلث، أو ربما مربع، أو أي شكل آخر، لا يمت للدائرة بأي صلة كانت، فالسودانيون لا يأملون خيراً من الوضع الاقتصادي، ما دام رئيس اللجنة الاقتصادية في السودان هو محمد حمدان دقلو (حميدتي)، على الرغم من تسمية الإعلام السوداني له "الاقتصادي العبقري"، وهو المنقطع عن الدراسة، منذ كان في الخامسة عشرة من عمره، والمتفرّغ من حينها لتأسيس مليشيا وقيادتها، مهمتها ارتكاب جرائم ضد الإنسانية. بحسب تقرير حول إمبراطورية حميدتي الاقتصادية نشرته صحيفة "العربي الجديد"، استطاع حميدتي بناء إمبراطوريته الاقتصادية، من خلال خمسة مصادر (التجارة، والذهب، ومساعدات أوروبا لوقف الهجرة غير الشرعية، وميزانية مباشرة من البشير خارج رقابة الدولة لتمويل حرب دارفور، والتمويل الإماراتي السعودي)، إذ لم تخرج إدارته الملف الاقتصادي عن النمط المليشياوي، فهو يمارس شتّى طرق النهب الاقتصادي لصالح شركاته.
لم يشهد السودان منذ إطاحة البشير أي تطور أو انفراج في ملف حرية التعبير والتجمع وتكوين الجمعيات والانضمام إليها
ولعل الوضع الاقتصادي الذي وصل إليه السودان الآن أكبر دليلٍ على أن حميدتي ليس الرجل المناسب في المكان المناسب، ولا ينطبق عليه لقب "الاقتصادي العبقري"، كما يطلق عليه إعلام النظام، إذ يشكل غياب مشروع التنمية عصب المشكلات الاقتصادية اليوم، كما تراجع الإنتاج في مختلف المجالات، وهو ما ترافق مع توقّف حركة الموانئ، ما أثّر سلباً على الصادرات. كذلك عملت الحكومة السودانية على تعويم الجنيه، على الرغم من غياب الرؤية التنموية والإنتاجية، ومن ثم سارعت إلى عقد مفاوضاتٍ تسعى، من خلالها، إلى الحصول على قروض خارجية، وتحديداً من صندوق النقد والبنك الدولي، أو عبر طرح سندات الدولة بأسعار فائدة عالية. الأمر الذي يجعل الاقتصاد السوداني تحت رحمة الدائنين. لم يؤثر التدهور الاقتصادي على الطبقة الفقيرة فقط، وإنما امتدّ إلى الطبقة الوسطى، بما فيها الشريحة العليا منها، كما يتبدّى في القطاع التعليمي، حيث ترك أكثر من 17 ألف تلميذ خلال العامين، الجاري والماضي، التعليم الخاص في مدينة الخرطوم فقط، بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة والرسوم المرتفعة، كي ينضمّوا إلى المدارس الحكومية، على الرغم من سمعتها غير المشجعة.
كما لم يستطع المجلس السيادي الدفاع حتى عن الاسم الذي اختاره لنفسه، حيث انتهكت السيادة السودانية مراراً وتكراراً من الجيش الإثيوبي والمليشيات الملتحقة به، حتى بات هذا الحال خبراً روتينياً تتجاهله بعض القنوات الإخبارية أحياناً. وأيضاً، لم يتمكّن من التوصل إلى حل جدّي مع إثيوبيا بشأن سد النهضة، على الرغم من إعلان وزارة الري السودانية عن تراجع منسوب مياه النيل الأزرق، مكتفياً بإبداء الانزعاج تارّة، والأسف تارّة أخرى من السياسات الإثيوبية، من دون أي محاولة إيجاد حلول حقيقية (دبلوماسية أو قانونية أو عسكرية) تحمي الأمن المائي السوداني، حالياً ومستقبلاً.
أثمر التزاوج المريض بين المجلس العسكري وقوى إعلان الحرية والتغيير عن نظام هجين وخطير، جرّ الخيبات على الشعب
وعلى غرار انتهاكات السيادة المتكرّرة، تتكرّر الانتهاكات بحق الحريات والحقوق العامة، من خلال أجهزة الأمن والجيش وقوات الدعم السريع والمليشيا شبه الرسمية التابعة لحميدتي، التي تمتلك مقرّات اعتقال خاصة بها، كانت شاهداً على استشهاد مواطنين عديدين تحت التعذيب، إذ طالب ويطالب سودانيون عديدون بحل هذه الميلشيا، وخصوصاً بعد مقتل الشاب بهاء الدين نوري تحت التعذيب، في ديسمبر/ كانون الأول الماضي. وبحسب منظمة العفو الدولية، لم تشهد البلاد منذ إطاحة البشير أي تطور أو انفراج في ملف حرية التعبير والتجمع وتكوين الجمعيات والانضمام إليها. ولعل أكبر الانتهاكات التي حصلت بحق الثوار السودانيين، كانت بعد تولي عبد الفتاح البرهان رئاسة المجلس العسكري، المسؤول عن مجزرة فض الاعتصام أمام مقر القيادة العامة للقوات المسلحة في الخرطوم، وراح ضحيتها أكثر من مائة معتصم ومئات الجرحى، بالإضافةِ إلى اغتصاب حوالي 70 شخصاً من كلا الجنسين، بغرض ترويع المتظاهرين، ومنعهم من العودة إلى الاحتجاج.
يفرض الوضع الحالي استمرار الحراك، لا بل ويجعله مهيأ لتصعيدٍ أكبر، كما تبدو الحاجة ملحّة حالياً من أجل فرز ممثلين جدد عن الحراك، بعد أن تحوّل ممثلوه السابقون إلى مجرّد أقمار تدور في فلك العسكر والمليشيات، ما يمنحهم فتات المناصب، مقابل صمتهم عن قمع الشعب السوداني وتجويعه، إذا أثمر هذا التزاوج المريض بين المجلس العسكري وقوى إعلان الحرية والتغيير عن نظام هجين وخطير، جرّ الويلات والخيبات على الشعب السوداني، حتى بات تجاوزه ضرورةً لا تقبل التأجيل.