السيسي يفسّر القرآن: من أمير المترفين؟
لم يعرف عن الجنرال، عبد الفتاح السيسي، أنه ضليع في فقه اللغة العربية، أو في الفقه الديني، وسجلّه حافل بكوارث عديدة بحق اللغة والدين، على نحوٍ تبدو معه علاقته بالقراءة والتعبير في حالةٍ شديدة البؤس.
من هنا تأتي الدهشة من استباحة النص القرآني، من أجل توظيفه سياسيًا وسلطويًا، عن طريق الإتيان بقراءةٍ لم نسمعها من أحدٍ من الأولين والآخرين من شيوخ التلاوة، لآيةٍ من سورة الإسراء، يقول فيها الله سبحانه وتعالى "وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا".
السيسي وهو يتحدّث، منذ أيام، عن تبديل رؤوس الماشية المصرية بأخرى مستوردة، استدعى هذه الأيام بقراءة توصف في كتب معظم المفسّرين بأنها شاذّة، فقرّر أن يضعِّف حرف الميم في كلمة "أمَرْنا" من الأمر، إلى "أمَّرنا"، وبالتالي يقود هذا التبديل في مبنى الكلمة إلى تبديلٍ في تفسيرها، ومعناها، ليتحوّل من الأمر إلى الإمارة.
يمكنك العودة إلى قراءات جميع أساطين التلاوة في مصر، من الشيوخ محمد رفعت والحصري ومصطفى إسماعيل، والمنشاوية الثلاثة، وعبد الباسط عبد الصمد، والطبلاوي، وكذا قرّاء الكتاب الكريم في الحرميْن، ومشاهير التلاوة في كلّ العواصم العربية، لن تجد واحدًا منهم قرأ الآية بتلك القراءة الموصوفة في التفاسير بأنها شاذّة، في مقابل القراءات المتواترة، المعتمَدة من جميع القرّاء على مرّ تاريخ التلاوة.
سيُقال، مثلًا، إنها قراءة شاذّة، لكنها موجودة إلى جانب المتواتر من القراءات. وبالتالي، لا غضاضة في أن يستخدمها أحد القرّاء والمفسّرين، أو أي شخصٍ حتى لو كان، بحكم تكوينه ومؤهلاته اللغوية الفقيرة، إلى حدّ أنها صارت مادّة خصبة لجميع البرامج الساخرة في الإعلام العربي، لا يعرف الشاذ من المتواتر، بل لا يستطيع نطق جملةٍ عربيةٍ سليمةٍ من الأصل.
سنتغاضى عن ذلك كله، ونقول، مع بعض القائلين، إنه اختيار واعٍ من الجنرال، يجعلنا بصدد حالة عبثٍ لغوي، مقصودة، وموّجهة، وليست عفو الخاطر، أو على سبيل الخطأ غير المقصود، وهي ما يفضي، في النهاية، إلى أنها رسالة سياسية موّجهة بعناية إلى شخصٍ أو جهة في الداخل أو في الخارج، فمن هو الأمير المترف الذي إن توّلى الحكم سيكون مصير القرية الدمار؟
قد يكون المعني بالرسالة، ذلك الذي أطلّ برأسه مجددًا من أبو ظبي، منتشيًا بإغلاق الملاحقات القضائية والقانونية للثروة الضخمة التي يمتلكها وعائلته، بما بدا أنه يتجهز للانقضاض على المشهد السياسي، مدعومًا من هناك، أو هكذا يتصوّر بعضهم.
تقول الوقائع على الأرض إنه، قبل عشر سنوات تقريبًا، توّلى عسكري منقلب إمارة مصر، مدعومًا من اتحاد إمارات خليجية، وأن هذا الشخص كان مدجّجًا بالمال والعتاد إلى حدّ الترف الشديد، فماذا فعل الأمير المترَف بكل هذه الإمكانات؟ .. أمير الترف العسكري هذا بنى قصورًا رئاسية، لزوم الوجاهة والمنظرة، وأقام عماراتٍ شاهقةً لكنه لم ينشئ عمرانًا إنسانيًا واجتماعيًا، بل أنشأ مناخًا مقبضًا من الكراهية بين فئات وطبقات المجتمع، وأقام جدارًا عازلًا بين القلة الثرية إلى درجة الترف الفاحش، والأكثرية المسحوقة بفعل الممارسات السياسية والاقتصادية التي تفترس الفقراء والبسطاء، ودمّر العلاقات الإنسانية بين مكونات المجتمع من خلال تأليب بعضه على بعض.
فعل أمير الجماعة العسكرية ذلك كله، ثم راح يتشبّه مرة بالنبي سليمان عليه السلام في فهمه للأمور، ثم الآن يتشبّه بالرسول محمد عليه السلام في جهاده وكفاحه من جل إقامة الدين والدولة، ويقول للمصريين إن النبي وأتباعه أكلوا أوراق الأشجار لكي يبنوا الدولة.
أخيرًا، شكرًا لذلك الشرّير الذي أشار على السيسي بالتوظيف السياسي لهذه الآية، بهذه القراءة، وأقنعه بأن في ذلك مكسبًا مضمونًا، فإذا به يوّرطه، مرة أخرى، ويجعله يطلق الرصاص على قدميه ورأسه، وهو يُسقط كل مواصفات أمراء الترف المدمّر على شخصه.