الشاعر الذي اعتقلته السلطة الفلسطينية
كان معيبا من الأمن الفلسطيني اعتقالُه، من على رصيفٍ في رام الله، الشاعر زكريا محمد، مع زملاء له، في أثناء فعالية احتجاج للتنديد بالاعتقالات السياسية، والمطالبة بمحاكمة قتلة نزار بنات. وجاء بديعا التضامن الفوري الساخط، والذي ألحّ على الإفراج عن زكريا، في عاصفةٍ ضجّت بها "السوشيال ميديا"، وشارك فيها كتّاب ومثقفون فلسطينيون وعرب من مختلف الحساسيات السياسية. وليس معلوما بعد ما إذا كانت حملة التضامن مع الشاعر (والأنثروبولوجي) وراء الإفراج عنه الليلة قبل الماضية، بعد أربع ساعات (أو أقل؟) على احتجازه، أم هي الفوضى في أداء الشرطة، وعدم وجود مذكّرة اعتقال. وحتى كتابة هذه السطور، لم يُعلن إفراجٌ عن جميع من تم اعتقالهم، ومنهم المخرج محمد العطار، وذريعة احتجازهم "التظاهر غير المشروع".
ولمّا كان تضامن مروحةٍ عريضةٍ من مثقفين وسياسيين وإعلاميين وفنانين مع زكريا محمد يستحق الاحتفاء، وكذا البيان الذي أصدره "ملتقى فلسطين" غداة فعلة الأمن الفلسطيني الشنيعة، فإن المأمول من الشاعر المعني أن يتملّى كثيرا في الحِنق الواسع الذي اجتمع عليه مثقفون عرب ضد احتجازه، لقناعتهم بأن من حقّه أن يزاول كامل حرّيته في التظاهر والتعبير عن رأيه، من دون التفاتٍ منهم إلى انتقائيةٍ يقيم عليها زكريا محمد نفسه بشأن هذه الحرّية، ذلك أنه ينشط بهمّةٍ ظاهرةٍ للتنديد باعتقال السلطات الحاكمة في مصر ودول الخليج (السعودية خصوصا) ناشطين وأصحاب رأي، ويناصر تظاهرات الرفض والغضب والاحتجاج في لبنان والعراق ومصر، وفي الوقت نفسه يضنّ على شعب سورية بأي مفردة تعاطف، منذ تظاهرةٍ شهيرةٍ في درعا ربيع العام 2011. لم ير الشاعر الفلسطيني في هبّة سوريين ضد النظام الحاكم في بلدهم في واقعة درعا تلك، وما تلاها من تظاهراتهم واحتجاجاتهم واعتصاماتهم في مدنٍ وبلداتٍ سوريةٍ أخرى، ما يستحقّ منه انتصارا لهم. لم ير في تلك المشاهد سوى السعودية وقطر وتركيا يؤازرون "ثورة" هناك.
كان عجيبا من شاعر فلسطيني، كاتب قصيدة نثر رائقة، متعلقٍ بقيم الحرية والعدالة والجمال، أن يصوّب مداركه وأخيلته إلى ما يقوله أردوغان وحمد بن جاسم وبندر بن سلطان، وأن ينشغل بمواقف هذا البلد وذاك بشأن الجاري في سورية، من دون أن يكترث بهتافات حناجر شبّانٍ وشابّاتٍ وفتيةٍ ونساءٍ وشيوخٍ سوريين في تظاهراتٍ لم تُطالب بغير الحرية والإصلاح، وألا يرى ما كان يُواجَه به هؤلاء من رصاص، ومن يسقط منهم من ضحايا. لقد بلغ الأمر بالرجل إلى أن يستخدم مفرداتٍ تشي بما هو عنصري وفوقي تجاه دول الخليج وشعوبها. وكان الظن تاليا، مع اشتداد حملة النظام العسكرية في سورية التي قضى فيها آلاف المدنيين، أننا ربما سنصادف من صاحب "عصا الراعي" ما يدلّ فيه على علوّ الحسّ الإنساني في شخصه، غير أن ما صرنا نجده منه أنه يضمّ "جماعة عزمي بشارة" إلى خصومه ممن يستغرِب فيهم أن يناصروا ثورةً في سورية، من دون أن يعرّفنا بالضبط على ما نرتكبه، ويستحقّ منا سخرياته (السخيفة والمنقوصة التهذيب)، غير إقاماتنا في قطر وعملنا في مؤسساتٍ تدعمها قطر، وذلك كله لا لشيءٍ سوى أن خيارَنا غير خيارِه، في الانتصار لشعب سورية ضد نظامٍ قاتل، أقمنا وعملنا في الدوحة أو أقمنا أو عملنا في المكسيك.
وفي الأثناء، ظلّ زكريا محمد حذرا من أن نلقى له أي عبارةٍ تؤازر نظام بشار الأسد، غير أننا، أبناء الكار، لا نجد في شاعرٍ يكتب عن قصف "طائرات آل سعود" (بتعبيره)، قبل أزيد من عام، إسطبل خيلٍ عربيةٍ في صنعاء، فيُقتل 70 حصانا، ولا يكتب حرفا عن براميل متفجّرة وقذائف ترميها "طائرات آل الأسد" (بتعبيرنا نحن في الدوحة) على مدنيين وغير مدنيين، وعلى مستشفيات ومخابز، لا نجد غير تواطؤ من هذا الشاعر مع النظام الذي يرتكب هذه الجرائم. تماما كما في التضامن مع الشاعر الفلسطيني المعتقل في سجن سعودي، أشرف فياض، توازيا مع الصمت على اختفاء طلّ الملوحي وغيرها في سجون سورية التي يمكُث فيها آلاف منذ سنوات (بينهم فلسطينيون).
أمضى زكريا محمد أربع ساعات (أو أقل؟) في مركز أمنٍ فلسطيني، فانتفضنا من أجل الإفراج عنه، وندّدنا، في غضبٍ كثيرٍ، بحماقة سلطة التنسيق الأمني، لأنه صاحب رأي. هو الذي كتب مرّة إنه كان دائما يبحث في الحالة الفلسطينية عن الطرف الأكثر ثوريةً من الطرف الذي ينتمي إليه. ولكن ماذا عنه عندما يخاف على سورية من أدوارٍ سعوديةٍ وقطريةٍ وتركيةٍ، ولا يخاف على شعبها من صلافة الاستبداد المستدام فيها؟ هل وجد نفسَه أكثر ثوريةً منّا، نحن الذين في غير ضفّته، ورأينا الخيول الذبيحة في صنعاء ورفضنا قتلها. ومن قبلُ ومن بعد، أشفقنا على زكريا نفسِه من خُيلاءَ بائسةٍ فيه، وهو يشنّع علينا بغريب الكلام السّمج؟ .. أما إذا قال قائلٌ إنّ لكلّ مقام مقالاً، فالمقام واحد، زكريا طليقاً أو محتجزاً أربع ساعات (أو أقل؟).