الشرق الأوسط الجديد بذور صراع متجدّد

13 أكتوبر 2024
+ الخط -

استمع إلى المقال:

تعيش منطقة الشرق الأوسط على وقع الحروب منذ أمد طويل، وهذا أمرٌ فرضته ظروف تاريخية، يعود بعضها إلى الصراعات الدولية التي قسّمت المنطقة مع نهاية الحرب العالمية الأولى، وللإعاقات التي سبّبتها السيطرة الأجنبية أمام بناء الدول الوطنية بمفهومها الحديث القائم على المواطنة والمستند إلى الشرعية الداخلية، ثم كان زرع إسرائيل بمثابة الإسفين الأكبر المهدد لاستقرار المنطقة وتطوّرها. لعبت الانقسامات القومية والدينية والطائفية دوراً في انعدام الهوية الوطنية، وهذا الدور لم يكن ذاتيًا فقط، بمعنى أنّ النخب الحاكمة هي التي لم تستطع رتق الشروخ والفوالق الصدعية بين مكونات شعوب المنطقة، وبدلًا من أن يكون التنوّع نعمة أصبح نقمة.

أعادت الحرب العالمية الأولى تقسيم المنطقة العربية، فغيّرت الخرائط السياسية، ليس فقط الحدود عندما أنتجت دولاً جديدة، بل غيرت الشعوب نفسها فأنتجت معها شعوباً جديدة ومزّقت شعوباً أخرى، فأبعدتها من امتداداتها الطبيعية، ومنعت شعوباً من بناء دولها المستقلة كما حصل مع الكرد. أحدث هذا الواقع الجديد أحلامًا مؤجلة بإعادة تشكيل المنطقة، فالعرب الذين حلموا بدولة تضم الحجاز ونجد وأجزاء واسعة من الجزيرة العربية والعراق والشام الكبرى خُدعوا ورُميت أحلامهم في أدراج سايكس وبيكو. أما السوريين الذي أسّسوا دولتهم الوليدة بعد الثورة العربية الكبرى فقد وجدوا أنفسهم عرضة للتقسيم مجدّداً، فأخذت تركيا منهم كيليكيا وديار بكر وأنطاكية ولاحقًا لواء إسكندرون، وفُصل لبنان ثم الأردن وفلسطين إلى دويلات تحت الانتداب مؤقتًا وقيد الترسيم النهائي لاحقًا.

تقاطع مصالح الأنظمة الحاكمة مرحليّاً مع مصالح إسرائيل، لكنّ الفوائد الاستراتيجية الكبيرة ستكون في النهاية من نصيب إسرائيل، لا دول المنطقة الأخرى

يعود اليوم شبح التفتيت من بوّابة الحرب الإسرائيلية على حركة حماس وحزب الله، والحقيقة أنّ إسرائيل ليست وحدها التي تريد القضاء على هذين التنظيمين، ثمّة دول عربية تريد ذلك. يثير تشابك المصالح والمواقف حيرة ناسٍ كثيرين في هذا الخصوص، وعلى سبيل المثال، يرى غالبية السوريين أنّ تحطيم حزب الله يصبّ في مصلحتهم لما ارتكبه من خطأ استراتيجي بالوقوف إلى جانب نظام الأسد في حربه ضدّ ثورتهم، إضافة بالطبع إلى جرائمه الطائفية بحقهم. في المقابل، يرى هؤلاء أنفسهم أنّ انكسار "حماس" سيؤدي إلى انكسار الحلم الفلسطيني بالتحرر وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة. لا يعني هذ أنّ جميع السوريين مع حماس، فالغالبية منهم يرونها مشروعًا جهاديًا يسعى لإقامة دولة دينية شبيهة بدولة حزب الله أو نظام الملالي في إيران، لكّنهم يقارنون نتائج نضالها في الوقت نفسه بنتائج نضال منظمة التحرير الفلسطينية التي أضاعتها اتفاقية أوسلوا التي جعلت حق العودة وحلم الدولة هشيمين تذروهما الرياح.

لن توفر الغطرسة الإسرائيلية الراهنة الفرصة التاريخية المتاحة لتحطيم المجتمعات العربية كلّها، وليس فقط "حماس" وحزب الله، فالوحشية التي محقت بها آلة الحرب الإسرائيلية غزّة ستقوم بالشيء نفسه في لبنان، والهدف دمغ الذاكرة الجمعية للشعوب وللحكّام على السواء بالرعب من المواجهة. يقف الغرب بكلّ ثقله وراء تثبيت هذه السيرورة عقوداً طويلة، ما يعزّز مجدّداً سرديّته بشان المسألة اليهودية التي كانت على الدوام مشكلته هو قبل نقلها إلينا نحن العرب. هكذا تتقاطع مصالح الأنظمة الحاكمة مرحليّاً مع مصالح إسرائيل، لكنّ الفوائد الاستراتيجية الكبيرة ستكون في النهاية من نصيب إسرائيل، لا دول المنطقة الأخرى.

يعود اليوم شبح التفتيت من بوّابة الحرب الإسرائيلية على حركة حماس وحزب الله

إذا كان المشروع القادم إلى الشرق الأوسط سيثمر استقراراً أمنيّاً بعد إزاحة المليشيات والمجموعات الإرهابية والمتطرّفة، وإذا كان سيعيد بناء دول الشرق الأوسط وفق مفاهيم الشراكة والتعاون بدل الحروب والنزاعات والصراع، وإذا كان سيثمر في النهاية عن استقرار اقتصادي ورفاهية تحلم بها كل شعوب المنطقة، فإنّ ذلك سيكون على حساب مسألتين جوهريتين: أول الخاسرين هم الفلسطينيون، لأنّ العنجهية الإسرائيلية لن تسمح لهم ببناء دولتهم المنشودة، والدعم الأميركي الغربي اللامتناهي لن يسمح للدول العربية والإسلامية بالضغط للدفع بمشروع هذه الدولة إلى منتهاه، على فرض رغبة هذه الدول بإقامتها حقًا. والخاسر الثاني الشعوب العربية، فالاستبداد السياسي سيتمكن منها تحت ثوب الليبرالية الاقتصادية والاستقرار الأمني، وسيحرمون من إقامة دولهم على أسس المواطنة الكاملة.

يدرك الإسرائيليون أنّ أي سلام واستقرار سيعني، في النهاية، اندثارهم بحكم الديمغرافيا، لذلك يمنعون باستمرار قيام السلام بينهم وبين شعوب المنطقة. ويدرك الحكّام العرب بغالبيتهم أنّ السلام سينزع من أيديهم ورقة المزايدة على شعوبهم بتحرير فلسطين، والتي بسببها جرى ويجرى تأجيل استحقاقات بناء الدول الوطنية القائمة على المساواة والعدالة والحرّية وسيادة القانون. جرّبت شعوب المنطقة المقاومة والممانعة بطرق مختلفة، فلم تصل إلى مبتغاها المنشود في التحرير وفي بناء الدول أسوة ببقية الشعوب، والآن يجرى تأميلها بمستقبل واعد، إذا ما تخلّت عن أحلامها بالحرية والكرامة، مستقبل يقوم على التمتع بمباهج الحياة بعيدًا عن السياسة، أي تخليهم عن حقهم باختيار حكّامهم. يعني استمرار النهج الراهن والمعزز بحلف الأنظمة مع إسرائيل ضد شعوبها أنّ المنطقة لن تستقر نهائيّاً، وإن سكنت، أو بدا أنها قبلت الهزيمة وتجرّعت مرارتها إلى الأبد، هذا هو الاستقرار الموهوم الذي لا ترى إسرائيل غيره ويشاركها فيه كثيرون من حكام المنطقة، لكنّه استقرار مؤقت وليس نهائيًاً، لأنّه يحمل في أحشائه بذور الانفجار من جديد.

56B14126-91C4-4A14-8239-0C25A8235D5D
56B14126-91C4-4A14-8239-0C25A8235D5D
حسان الأسود

كاتب ومحامٍ وحقوقي سوري، المديرالسابق للهيئة السورية للعدالة والمحاسبة، مقيم في ألمانيا.

حسان الأسود