الشيخ الأصولي والنائب شبه النسوي
الشيخ سامي خضرا من الوجوه المعروفة في الوسائل الإعلامية الناطقة باسم حزب الله وإيران: إذاعة النور وقناة المنار اللبنانيتَين، وقناة الكوْثر الإيرانية. يفتي بانتظام في شؤون الدنيا التفصيلية، ويُصدر الكتب بغزارة، ويمكن القول إنّه "المثقف العضوي" الأصولي المنْدمج تماماً مع "بيئته" ومع الحزب الذي يحكمها. ذاعَ صيته في أثناء الثورة (حراك 17 أكتوبر/ تشرين الأول) بعدما خدشته النساء اللبنانيات المشتركات فيها. فـ"اعتذر" للعرب والمسلمين عما وصفها بـ"الصورة السيّئة الموبوءة التي نُقلت عن المرأة اللبنانية خلال ما يُسمّى بالتظاهرات والصورة السيّئة عن كلّ المجتمع اللبناني خاصة المرأة". وقد انصبّ استياؤه على" لِباس المتظاهرات"، على "حركتهن وألفاظهن". أي أنه، بصفته رجلاً لا يقبل بأقل من لباس التشادور الإيراني، الموحَّد والمرْصوص .. شكّل مشهد اللبنانيات في تظاهرات الثورة استفزازاً لمعاييره الأصولية: بتعدّدهن، بحرّيتهن، بتنوعهن الطائفي والأيديولوجي والمناطقي بملبسهن وهندامهن ولغة جسدهن، بصياغتهن الشعارات وبقيادتهن التظاهرات.
ضربَ الشيخ مرة أخرى، واستثار ردود أفعال إضافية، عندما اقترح على النساء أن يضعن صورةً لشجرة بدل صورتهن الشخصية، على مواقع التواصل. تساءل: "منذ متى يضع رجلٌ لديه كرامة وشرف صورةَ ابنتِه 'الصبية' ويمكن لأيٍّ كان سحبها؟" تابع: "هل تعلمون أنّ لبنان شهد منذ أشهر حتى اليوم حالات انتحار عدّة جرى التعتيم عليها، وسببها أنّ صور وسائل التواصل تم نشرها فاحتارت صاحبة الصورة ماذا تفعل، وأقدمت على الانتحار؟". وحفظاً على حياة هذه المرأة، طلبَ الشيخ من قوى الأمن اللبنانية والعالمية منع نشر هذه الصور، فاقترح تلك الشجرة بدل الوجه. وانضم بذلك إلى قافلة العاملين على امّحاء الوجود النسائي من المجال العام. الأول في التظاهرات والثاني في مواقع التواصل. لا جسم لها ولا وجه ..
اقترح الشيخ سامي خضرا على النساء أن يضعن صورةً لشجرة بدل صورتهن الشخصية، على مواقع التواصل
لا نعرف عدد الضربات التي تلت الضربتَين السابقتَين. ربما كثير ربما قليل، لم يصل إلى مسامع الجموع، أو يُحدث ضجّة ما. لكنّ الضربة أخيراً جاءت من مكان آخر. من مكان كراهية الطوائف الأخرى، بعد كراهية النساء. فعلى إثر دعوة أمين عام حزب الله، حسن نصر الله، كلّاً من الوزيرين السابقين سليمان فرنجية وجبران باسيل، المسيحيَيْن، إلى إفطار، غرضه حلّ الإشكال الانتخابي بين الرجلَين، قامت قيامة الشيخ خضرا، فعلّق على "تويتر" بأنّ دعوات على الإفطار لغير المسلمين كهذه، هي "موضة جديدة" على غرار موضة الخيم الرمضانية ذات العزّ الغابر، وأنّ دولة الإمارات هي التي ابتدعتها "باستضافتها لممثلين عن طوائف بوذية وهندوسية ويهودية ونصرانية (لاحظ "نصرانية" بدل "مسيحية") وغيرها على مائدة الإفطار". وأنّها بدع "لا يجوز" أن تستمر لكونها "من أنواع تمييع العقيدة وشهر الله تعالى بطريقة لم يألفها المسلمون من قبل".
تكلَمَ الشيخ وكأنّه واحدٌ من أولئك السلفيين السنّة الفائضين، الذين ينزلون الفتاوى بالآلاف، وكلها تربط بإحكام بين ازدراء النساء وكراهية كلّ ما هو "نصراني ويهودي". استطاع أن ينقل لسان الإرهاب السنّي إلى الإرهاب الشيعي. وذلك بعدما تمكّن هذا الأخير، الإرهاب الشيعي، أن "ينتصر" على الأول، السنّي، في معركته على الشعب السوري ومن أجل بشار الأسد.
والشيخ خضرا يتكلم هنا عن بلدٍ يقوم ميثاقه ودستوره وعاداته وتقاليده على التجاور والتَزاور الدينيين والمذهبيين، وفي لحظة تتطلب من حزب الله أقصى درجات مسايرة المسيحيين لينقذ حليفه جبران باسيل من السقوط في الانتخابات المقبلة، فتمتنع عليه ساعتها رئاسة الجمهورية. أي أنّ "الظرف" يحشُره، وأنّه لا يستطيع أن يذعن لفتاوى شيخه، أو يؤجل الدعوة مثلاً إلى ما بعد شهر الصيام.
الشيوخ ثابتون والنواب متغيرون. يكفي للنائب أن يمشي على صراط الحزب ليستمرّ في دوره.
مارسَ الحزب ضغوطاً كواليسية على الشيخ خضرا، لم تلبث أن أدّت إلى سحب تعليقه من "تويتر". فقط لا غير، أي السكوت عن هذه الألفاظ "غير المناسِبة" في هذا الوقت بالذات، فعادَ الشيخ إلى الإذاعة والقناتَين يبثّ فيهما فتاويه واجتهاداته، المثيرة، أو غير المثيرة للجدل، فلم يخسر غير تعليقه التويتري.
الآن: تستدعي ردود فعل حزب الله الرحيمة تجاه الشيخ خضرا واقعة أخرى، حصلت منذ ثلاث سنوات، قبل أشهر من اندلاع الثورة. كانت الساحة تضجّ باحتجاجات واعتصامات نسائية وقفت أمام مبنى المحكمة الجعفرية للتظلّم على قانون الحضانة المجحِف، وعلى وقوف المشايخ إلى جانب الزوج وامتيازاته الجنسية... تبرز واقعة نواف الموسوي، النائب في البرلمان عن حزب الله. والمعروف عنه، قبل ذلك، أنّه كان النائب المسلم الوحيد الذي وقّع على اقتراح تعديل قانون حماية النساء وسائر أفراد الأسرة من العنف، والذي قدّمته منظمة كفى إلى المجلس النيابي، ومعه تسعة نواب غير مسلمين آخرين. ومعروفٌ عنه أيضاً وقوفه ضد زواج القاصر، وألّا تزوَّج إلّا عندما "تصبح راشدة". قبل ثلاث سنوات، رأيناه وهو يخوض معركة مع طليق ابنته، معركة علنية وعنيفة بوجه الشرطة المحلية، ضد طليق ابنته، دفاعاً عن حقها برؤية وليدها بعد طلاقها. وكان للحادثة صدى إيجابي لدى جمعيات المرأة. لكن لم يكن للحزب الموقف نفسه، فسرعان ما أُقيل الموسوي من وظيفته البرلمانية، واستُبدل بنائب آخر، فاز بالتزكية.
إذاً، كان هناك اختلاف في المعاملة، بين الشيخ الذي يهرْطق بقانون الميثاق والدستور والأعراف اللبنانية الدنيوية والنائب الذي يهرْطق بقانون السماء المزعوم والمنقول عن طريق ألْسنة الشيوخ. الأول تستّر حزب الله على ضرباته، فلم ينَل سوى عقاب سحب تدوينةٍ نشرها في "تويتر". ومضى يمارس حضوره الإعلامي بلا قطع. فيما أقصى الحزب نفسه نائباً انحاز إلى بعض الطروحات النسوية من الباب العاطفي الصرف، إذ بقي يردّد بعد إقالته: "بين النيابة، والأبوة، اخترتُ أن أكون أباً". وفي الأصل، الشخصية التي رجّحت ميزان القوى لغير صالحه في واقعة الموسوي ودفاعه عن ابنته هو الشيخ محمد توفيق المقداد، مدير مكتب الوكيل الشرعي لعلي الخامنئي (مرجعية حزب الله) في لبنان، فالمقداد والد طليق ابنة الموسوي ..
لأول مرّة في تاريخ لبنان، تقود طائفةٌ البلاد، وهي على تركيبة وأيديولوجيا أصوليتين
واضح أنّ موقع الشيخ الأصولي المتطرّف في الحزب أقوى من موقع النائب في البرلمان. الشيوخ ثابتون والنواب متغيرون. يكفي للنائب أن يمشي على صراط الحزب ليستمرّ في دوره. ويُسمح للشيخ أن يخرج عن بيئته وجمهوره بهرطقاتٍ وطنية، فيبقى على دوره السابق... لماذا؟ لأنّ الشيوخ المتطرّفين هم المادة الحية لمشروعهم، و"المدنيين" هم التابعون لتعليماتهم، وللإذعان لشريعتهم. هم صلة الوصل بين الحزب وإيران. يتماهون معها بالشكل والمضمون. قيادة الملالي هي صيغة الحكم الإيراني. والشحن المذهبي المطلوب للبقاء على حكمهم يقوم به الشيخ المعمَّم على أفضل الوجوه. وليس "المدني" الذي يستمدّ شرعيته من قوانين وضعية، هو العدو اللدود لدعاة الشريعة الدينية. وفي أثناء هذا الشحن، يُحرَج الحزب أحياناً، وفي ظروفٍ معينة مثل الانتخابات، لكنّه لا يتزحْزح عن أصوليته. ولا مكان هنا في هذه المقالة لعشرات الأمثلة عن هذه الارتكابات، فالشيخ هو من صميم التكوين الأصولي للحزب. رمزُه وعلامته وكينونة أمينه العام ونائبه.
والشيخ خضرا، مثل جمهور الحزب عندما يخرج عن طوعه، ويصرخ ما تيسرّ به في بيئته. مثل أمواج الحقد والكراهية التي يقتحم بها أنصاره الشارع، متجاوزين كلّ مضامين العيش المشترك ومطلقين صيحات "شيعة شيعة" من على الدرّاجات، ونشوتهم الانتصارية العاصية على الحدود. يليها "تهدئة" ودعوات الذباب الإلكتروني إلى الصمت عن هذه الواقعة أو تلك، والمذهبية بكلّ الأحوال.
افتُتنَ حزب الله بالنظام الطائفي، وعرف كيف يعشّق مفاصله على مصالحه "الاستراتيجية". قبله كان الموارنة، وبعدهم السنّة. والآن دوره في قيادة سفينة الطوائف. ولأول مرّة في تاريخ لبنان، تقود طائفة البلاد، وهي على تركيبة وأيديولوجيا أصوليتين، تنتميان إلى الجناح الرجعي من نظام أصولي، أي الحرس الثوري في إيران. وخطورة هذه الأصولية أنّها لن تتوانى عن ضرب آخر القواعد الاجتماعية التي تقاومها في لبنان: تلك التي ترسخت في المجتمع، وأفضتْ إلى بعض حريته... والسؤال الباقي: إلى أي حدّ يمكن لحزب الله أن يجرّ المجتمع اللبناني إلى مزيد من الظلام؟ أو، إلى أي حدّ يمكن لهذا المجتمع أن يقاومه؟