"الصبر الاستراتيجي" الإيراني برنامجاً لانتخاب الرئيس اللبناني
"الصبر الاستراتيجي" أصله إيراني. خرج إلى الملأ منذ عقدين ونيف. في عهد محمد خاتمي، وبدء المفاوضات النووية بين إيران والولايات المتحدة. والمقصود به "التحلّي بالثبات والصبر" لمواجهة أي ضغوطٍ سوف تتعرّض له لوقف برنامجها النووي، أي هدفها الاستراتيجي. ومن أجل تثبيت عزيمة هذا الصبر، وجعله مفيداً لتحقيق القنبلة الذرية المشتهاة، على إيران أيضا توسيع "مجالها الحيوي"، عبر الدفاع عن عرش بشّار الأسد، باستماتة، وتطوير برنامجها المليشياوي، القائم على مسلّحين يؤمنون بعقيدتها، وينفّذون تعليماتها الصادرة عن حرسها الثوري (الباسيج).
هذه المليشيات المموَّلة من إيران والعاملة على تحقيق هدفها الثاني، التوسّع الإقليمي، دعماً لهدفها الأول، النووي ... أصابها شيء كثير من "الصبر الاستراتيجي"، كما كان الشيوعيون الأمميون يُصابون أيام ستالين بشعاره "بناء الاشتراكية في بلد واحد" الذي برّر به كل تضحياتهم من أجل "مصالح "صديق الشعوب"، الإتحاد السوفييتي، "البلد الواحد". وهكذا انتقل "الصبر الاستراتيجي" إلى لبنان، عن طريق حزب الله، درّة التاج الإيراني، وبات مرحِّباً بالنوائب، ومضيقاً على كل من يستعجل الخطى لإصلاح ما، أو يكشف جريمة، أو فساد، أو انتخاب رئيس...
وليكون هذا الصبر مستداماً، يدعمه حماته بفكرة أخرى، مستوردة أيضا من إيران: من أن الذي يحصل الآن في لبنان ليس سوى "حصار أميركي"، كما هي إيران "محاصَرة". وهذا المنهج "الصابر"، يحتاج إلى رديفه، أي الانتظار. بهذه الحالة، بهذه الروحية المفروضة على اللبنانيين اللاهثين وراء وقتهم، افتتحت منذ عام تقريبا حملة انتخاب رئيس جمهورية جديد، بعد انتهاء عهد ميشال عون.
سنة إلا شهرا، ومجريات الحملة الانتخابية لا تُفارقها الحرائق ولا الاشتباكات ولا الجرائم الموصوفة أو السرقات، أو انهيار أشكال الحياة والممات
كانت المشكلة الكبرى في البداية أن جبران باسيل، صهر ميشال عون، كان فهم أن حزب الله، أو وعَدَه هذا الأخير، أو أفهمه، أو هو بنفسه فهم ... بأن الرئاسة ستؤول إليه بعد خروج عمّه من القصر. لكن الحزب مصرٌّ على ترشيح غريمه، سليمان فرنجية، إلى الرئاسة. فكان ماراثوناً من المحادثات، والتلْطيشات، والتصريحات، والذباب الإلكتروني ... أخذ ورد، عنيف، أو مطمئن، وكل مرّة كلام عن جرّة انكسرت بين الحزب وباسيل، أو أنها لا وألف لا! لم تنْكسرالجرّة. المهم ان باسيل لم يستسلم. اشتغل مع من يسمّون أنفسهم معارضة في البرلمان، ونسجَ "تقاطعا"، على ترشيح جهاد أزعور، فكانت الجلسة النيابية الثانية عشرة. سبقتها إحدى عشرة جلسة، تنافس فيها سليمان فرنجية مع مرشّح خصم آخر، ميشال معوّض، في عروض محروقة. إذ إن كلها لم تُفضِ إلى شيءٍ، سوى أصوات قليلة زائدة، لم يكمّلها رئيس البرلمان نبيه برّي، منعاً لدورة تصويت ثانية، منعاً لمفاجأة لا تسرّ "الصابرين".
ولكن لهذا الرئيس أيضا "مخْرجاته"، منها أن أفضل الحملات الانتخابية الرئاسية هي التي تتم بـ"الحوار". هيا إلى الحوار! ومعها مزايدات: فمن لا يلبّي الدعوة هو غير مسؤول، غير مهتم، خاسر في كل الأحوال. لأن الناس سوف ترى من هو المرحّب ومن هو المشكّك بالحوار، من هو الرجل الحقيقي، من هو المدافع الحقيقي عن مصلحة البلاد وأهلها... إلخ.
سنة إلا شهرا، ومجريات الحملة الانتخابية لا تُفارقها الحرائق ولا الاشتباكات ولا الجرائم الموصوفة أو السرقات، أو انهيار أشكال الحياة والممات. وتحت جناح التخويف المتبادل بين إسرائيل وحسن نصر الله، تأتي آخر الأحداث: الحملة على مخيم عين الحلوة الفلسطيني، والإعتداء على أهالي الكحالة، وجديد الافتعالات أخيرا حملة وزير الثقافة على دمية باربي التي لاقت اهتماماً واسعاً من مقطِّعي الوقت. مثلها "عملية أمنية" في حيّ السلُّم في الضاحية الجنوبية، معقل حزب الله، لم يصرَّح بسوى اسم ضحيتها السوري، وعلى أنه من "داعش"، وأنه قُتِل برمي نفسه من الطابق الثامن. وكل ما تبقى غامض، مثيرٌ للنوع ذاته من الحشرية.
فشلت فرنسا، لأسبابٍ ربما تعود إلى مواقف شركائها في اللجنة الخماسية الخاصة بلبنان، أو إلى ضعف ثقلها في هذه اللجنة
اثنتا عشرة جلسة يقودها رئيس البرلمان، على امتداد كل هذه الأشهر، يمنع في أثنائها انتخاب الرئيس بالطرق السحرية التي يبرع بها، وبالإلحاح على الحوار. وفي هذه الأثناء، مبعوثون وسفراء يصرّحون، يؤنّبون السياسيين، يتلون عليهم مواعظ في الأخلاق السياسية، يجتمعون بالقادة، يدورون بينهم، يهمسون. وفي كل الأحوال، ليس مفهوماً ماذا يريدون بالضبط، حتى "المصادر" الموصولة برجال القرار تخطئ بشأن نواياهم.
ومن أبرز الموفدين الفرنسي جان إيف لودريان. قبل هذه المهمة، كانت فرنسا منقسمة بين الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، ووزارة الخارجية. بين من يدعم حزب الله، ومن يتحفَّظ عليه. فانخرط ماكرون بحماسة أنيقة لمرشّح الحزب. ولكن فرنسا فشلت، لأسبابٍ ربما تعود إلى مواقف شركائها في اللجنة الخماسية الخاصة بلبنان، أو إلى ضعف ثقلها في هذه اللجنة. ثم جاء لودريان ليسدّ تلك الثغرة، أو يصحّح تلك السقطة، فرحلات مكوكية واجتماعات مع رؤساء أحزاب وزعماء طوائف، فأصيب لودريان بالدُوّار، كادَ أن يختفي بين الخيوط العنكبوتية لهذا "المشرق المعقّد"، كما يحبّ الفرنسيون ان يقولوا في كل خلاصة عن حالتنا، منذ بدأوا يتسرّبون إلى مدننا وجبالنا، قبل قرون...
وكانت فكرة لودريان اللامعة أن يرسل إلى 128 نائباً في البرلمان رسالة واحدة، شخصية، رسمية، صادرة عن وزارة الخارجية، ذات مقدّمة معروفة، فيها كل المفردات المألوفة: التحدّيات، بلورة التوافق، مستقبل بلدكم ... وتنتهي بسؤالين، على النواب الكرام الإجابة عنهما قبل نهاية الشهر. ما هي، بالنسبة إلى فريقكم السياسي، المشاريع ذات الأولوية المتعلقة بولاية رئيس الجمهورية خلال السنوات الست المقبلة؟ ما هي الصفات والكفاءات التي يجدُر برئيس الجمهورية المستقبلي التحلّي بها من أجل الإضطلاع بهذه المشاريع؟
أيقن لودريان أن تلك السيولة في الجيوسياسة الدولية الآن تحتاج هي الأخرى إلى "صبر استراتيجي" لتمرير الوقت
لم يقل لودريان ماذا سيفعل بالإجابات التي ينتظرها. ورشة عمل؟ حوار، مجدّداً؟ تحكيم؟ مفاوضات إضافية؟ ومزيد من المكّوكية؟ بدا كأنه مبتدئ في العمل الديبلوماسي. أو أنه صار من أباطرته، بعدما أيقن أن تلك السيولة في الجيوسياسة الدولية الآن تحتاج هي الأخرى إلى "صبر استراتيجي" لتمرير الوقت، لعلها تهدأ الهزّات التي تتسبّب بها للكرة الأرضية بأسرها، أو أن السياسة اللبنانية "عجّزته"، فاخترع أي شيءٍ ليملأ الفراغ الذي يلتهمها.
ولكن لودريان يبدو رجلاً شفافاً أيضاً. لم يضع القفّازات ليتكلم مع البرلمانيين. لم يتمكّن من إخفاء قلّة احترامه لهم. اسئلته عن "الأولوية" و"الصفات" لها طابع مدرسي، من مستوى صف الإبتدائي. كأنه يدعوهم إلى التزام الطابور، والكفّ عن إبهاره بألعابهم النارية المنطفئة. كأنه يريد أن يقول لهم بأنهم يستحقّون تلك المعاملة. وثمّة نواب احتجّوا على الرسالة، فيما سكتَ عنها نواب الممانعة، وأصحاب الحسابات "الواقعية". والنواب المحتجّون سمّوا أنفسهم "معارضة"، وردّوا على أسئلة لودريان بأنه أصبح جلياً عدم جدوى أي صيغةِ تحاورٍ مع حزب الله وحلفائه"، ورأوا فيها فرصةً لتصعيد مطلبهم بإزالة سلاح حزب الله، فهل ينجحون في"انتخاب" رئيسٍ يرضون عنه؟
حتى الآن، هذه هي أهم مجريات الحملة الانتخابية لرئيس الجمهورية الجديد. في تقطيع الوقت، في الصبر الإستراتيجي ... بانتظار شيء ما يحصل في العالم القريب أو البعيد: نووي إيراني، مفاوضات أميركية إيرانية، علاقة بين الصين واميركا، صعود العسكر في أفريقيا، هزيمة بوتين في أوكرانيا أو انتصاره، انفجار مناخي ... أي شيء، يمكن أن يعدّل قليلاً في روتين هذا الصبر، فتطلّ علينا رؤوس أخرى، مرشّحون آخرون. أو أحداث أمنية تأتي على جذور الحياة نفسها... لنرى بروفايل المرشّح الجدّي، غير المحروق. وقد يحتاج ذلك إلى سنة أخرى من الصبر، أو اثنتين.
وساعتها، هل نبقى بحاجةٍ إلى رئيس جمهورية؟ أو أصلاً هل نحتاج إليه اليوم؟