الصراع يتخطّى نتنياهو ,اي مسؤول إسرائيلي
يرى محللّون أن الإبادة التي تجري بحقّ غزّة وناسها اليوم ليست إلا نتيجة محاولة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو التغطية على فساده وعلى عدم قدرته على حكم دولة الاحتلال، لأن "طوفان الأقصى" ونتائجها ستكون وبالًا عليه وعلى مساره السياسي وموقعه رئيس حكومة. توحي هذه المقاربات بأن مجمل ما يقوم به نتنياهو لا يتخطّى شخصَه، وسجلّه القضائي، ومستقبله السياسي ومستقبل مشروعه ومشروع حزبه. ما يُظهر وكأن إقبال نتنياهو على مزيد من القتل والإبادة، والتي يمكن أن تمتدّ لتشمل بلدانًا أخرى، بمثابة هروبٍ مفتوحٍ إلى الأمام.
يعاني هذا المنطق من قصورٍ على مختلف المستويات، فهو يطوف على سطح الأحداث، من دون الولوج إلى قلبها بوصفها سياسة مقصودة بمعزلٍ عمن يقوم بها، علمًا أن بديل نتنياهو هو، في أحسن الأحوال، يمينيٌّ متطرّف يكاد يكون نتنياهو نفسه مزحة أمامه. هو منطق لا يكلّف نفسه عناء محاولة ربط سلوك نتنياهو بمستقبل دولته انطلاقًا من حراجة الحالة التي وصلت إسرائيل إليها اليوم. فهي، من هذا الباب، ليست مجرّد دولة لها تاريخ وحاضر ومستقبل، أو دولة بمطلق المفهوم والمصطلح، كما أنها ليست تحصيل حاصلٍ وأمرا بديهيا ومسلّما به، بل هي دولة احتلال، لها وظيفة رسمها الاستعمار بدقّةٍ وإتقانٍ حين قسّم هذا الجزء من العالم، وحين وزّع المهام والسلطات بما يناسب مصالحه لحظة رسم الدول وتعيين حدودها في اتفاقية سايكس بيكو ووعد بلفور.
وحشية تهدف إلى احتلال ليس الأرض وقتل الشعب في فلسطين فحسب، بل السيطرة على تفاصيل حيوات شعوب المنطقة، وفرض نمطٍ من أنماط الوجود عليهم
الوظيفة المنوطة بهذه الدولة استعمارية قبل أن تكون أي شيءٍ آخر، وهذا ليس مجرّد توصيف وبلاغة وصيغة إنشاء، وظيفتها لها تداعيات تتمثّل في سلوكها الهادف إلى نتائج متوخّاة تعمل على ضبط كل محاولات التفلّت من النتائج السياسية والاقتصادية المحتملة وغير المرغوبة. وحين تمارس دولة الاحتلال هذه الوظيفة تستحضر كل الوحشية التي تقوم على إبادة الشعوب، بمعزل عن الحاكم وعن جلدته وجنسيّته وهويّته، بمعزل عما إذا كان من المنطقة، أو كان مستوطنا وافدا إليها، فالغاية النهائية تحقيق أهداف لدولة العدو وأهدافٍ تتخطّاها.
يأتي اقتصار أي تحليل على موقع نتنياهو ومأزقه على حساب التحليل الواقعي نفسه، وعلى حساب دراسة النتائج المنطقية لفعل متعدٍّ وتأسيسيٍّ بدأ في القرن الماضي مع دولة موعودة تم إنشاؤها في قلب هذه المنقطة التعدّدية دينيًا وطائفيًا ومذهبيًا، والتي تختلف ثقافات شعوبها على مستوى القراءة والأدب والسلوك، وصولًا إلى مستوى تصوّر الحياة ما بعد الموت. بما يعني أن إحدى أبرز وظائف اسرائيل تقوم على الشرذمة وتهدف إليها. من هنا، يصبح اختزال الوظيفة الاستعمارية بشخص نتنياهو، وافتراض أنه السبب، يغفل حقيقتها دولة استعمارية، ويغفل وظيفتها الإرهابية القائمة على قتل الناس وتهجيرهم من أرضهم، والتي ترتقي وحشيّتها بموجبها كي تكون بمثابة إرهاب مؤسّسة، بل ترتقي بذلك كي تتصّف بإرهاب الدولة نفسها.
الوظيفة المنوطة بدولة الاحتلال استعمارية قبل أن تكون أي شيءٍ آخر
من هذا المنطلق، يصبح هدف الوحشية مزدوجًا، فهي آلية لقتل الشعب الفلسطيني ومصادرة أرضه، وهي من ناحية ثانية آلية وظيفية للشرذمة، ونهب المقدّرات والثروات، وتخويف بقية شعوب المنطقة وإبقائهم في حالة خنوع وركود يكتفون بمشاهدة ما يجري من دون أي تدخّل أو إعاقة أو حتى إصلاح. وحشية تهدف إلى احتلال ليس الأرض وقتل الشعب في فلسطين فحسب، بل السيطرة على تفاصيل حيوات شعوب المنطقة، وفرض نمطٍ من أنماط الوجود عليهم، بالإضافة إلى الهيمنة على كل مشاريع تفكيرهم. فالاكتفاء بقول إن سبب ما يجري الفساد وقلّة الحيلة والحنكة السياسية، يجعل من ذلك الكيان وكأنه يريد السلم، ويطمح إليه، وأن ما يحدث ومن يقوم به، ومن يقرّر بشأنه، نتنياهو أو غيره، تفرض عليه بعض الشروط العرضية الإبادة التي يمارسها، ويغفل أنه احتلالٌ يتعارض مع عنوان ومع كل مندرجات السلم أساسًا، وصولًا إلى إغفاله أن مجرّد وجود هذه الدولة اعتداء.
قد يبدو لبعضهم أن لا حاجة لتأكيد المؤكّد، وأن لا حاجة لإعادة ذكر المنطلقات التأسيسية لكل الصراع الدائر مع هذا العدو، كما يجري بحقّ غزّة اليوم، أو في أي اعتداء مستقبلي على لبنان أو سورية أو أي دولة عربية أخرى. إلا أن التذكير، من هذه الناحية، ليس إلا بهدف استبعاد فرضياتٍ كثيرة قد تبدو منطقية في لحظة، إلا أنها ليست كذلك. هو تذكير يهدف إلى تمحيص يعيد الحاجة إلى تقويض فرضياتٍ وتفاصيل كثيرة، لأنها تتعارض مع الأصل القائل إن الدولة الإسرائيلية المزعومة هي دولة احتلال واستعمار، لها هدف مزدوج يتخطّى أي شخص أو مسؤول فيها، لها غاية الكيان وغاية تتخطّى الكيان نفسه، وتتخطّى وجوده، فالخلاص من نتنياهو، ومن دولته، ليس خلاصًا من الأصل الاستعماري بالضرورة، ولا من الوحشية والطبيعة المعتدية لهذه الدولة. من هنا، تستوجب محاولة التفكير بما يجري اليوم تخطّي الحدث المباشر ورفض المنطق الذي يغفل السياق والوظيفة، وتستوجب رفض المنطق الشخصاني الذي يرى الصراع برمّته وكأنه فلتة شوط، وكأنه محاولة فردية من رئيس حكومة منفصل ومنعزل عن إدارة تهيمن على دولة احتلال، وإدارة دولية تهيمن عليها وتديرها بالطول والعرض، وتنفذ من خلالها ما تشاء بهدف مصلحتها بوصفها دولة استعمارية أولًا، وبهدف كونها جزءا من مشروع استعماري توسّعي يهدف إلى نهب خيرات الشعوب، وضرب أيٍّ من شروط تقرير المصير والتكامل العربي والاكتفاء الذاتي ثانيًا، ويهدف أخيرًا إلى السيطرة على البلاد بأكملها، إن لم يكن بالعسكر وبالوحشية والجريمة، فبالسلطات المحلية الناهبة التي تصبّ، في مجمل ما تصبّ، بتلك الآلية الاستعمارية ومصالحها.