الصندوق "الأسود" للنقد الدولي
ليس المقصود من وصف صندوق النقد الدولي بالأسود غموض أنشطته أو آليات عمله. وإنما السوداوية في دوره تجاه الدول الفقيرة والأضرار الكارثية التي تتعرّض لها على وقع اتباع وصفاته، وتلبية شروطه النقدية والمالية، فما من دولةٍ سارت على درب الصندوق، إلا وتفاقمت مشكلاتها الاقتصادية، ودخلت في دوّامةٍ من الاقتراض والخصخصة وغيرها من مداخل سريعة وناعمة، لإخضاع اقتصادات تلك الدول إلى الأطراف الدائنة، أي التبعيّة الاقتصادية.
هذا هو حال مصر حالياً، فهي تدورُ منذ عشرة أعوام في حلقةٍ مغلقة. تبدأ بالاستدانة، ثم توجيه القروض إلى أوجه إنفاقٍ غير استثمارية، ولا إنتاجية، فيظلّ عجز الموازنة قائماً بل يتفاقم، ونتيجة عجز الدولة عن سداد فوائد الديون، فضلاً عن أقساطها الأصلية، تضطرّ إلى الاقتراض مجدّداً بشروط جديدة، غالباً تكون أشدّ قسوة من السابقة.
وبعد أشهر من التعثر والتوقّف، استؤنفت قبل أيام المفاوضات بين مصر وصندوق النقد الدولي، حول استكمال تنفيذ الاتفاق المبرم العام الماضي حول تقديم الصندوق لمصر ثلاثة مليارات دولار، تطلب مصر زيادتها إلى نحو ستة مليارات دولار. ومهما زادت قيمة المبالغ التي يقدّمها الصندوق، تظلّ مسكناتٍ مؤقتة، لا تعطي حلولاً، وإنما تُؤجل الأزمة وتعمّقها في الوقت ذاته. فقروض الصندوق تطيح سيطرة الدولة على اقتصادها، وتُخضعه لتحكّم القطاع الخاص، خصوصاً الأجنبي.
وبعد التجارب الكارثية في الدول التي اتّبعت وصفات الصندوق في عقدي الثمانينيات والتسعينيات، أخذت الدول المتحكّمة في الصندوق بحصصها المالية تعدّل قليلاً من شروط برامجه الإقراضية، بحيث تُراعي، ولو جُزئياً، الأوضاع المعيشية للطبقات الدنيا في مجتمعات الدول التي تتّجه إلى الاستعانة بالصندوق. ورغم تلك المحاولة لتجميل دور الصندوق، لم يتغيّر دوره التدميري وجوهره الخبيث، فظلّت الدول التي تستعين به تجسّد نماذج صارخة للإخفاق والفشل في استنهاض الاقتصاد بمقوّيات وحزم تنشيط الصندوق. والأمثلة على ذلك كثيرة، من أهمّها وأحدثها اليونان والأرجنتين وتونس، وقبلها بنغلاديش وسيراليون وناميبيا. بينما لم تفلت من براثن الصندوق بوصفاته السوداوية إلا الدول التي طوّعت وصفاتها وتعاملت معها بانتقائية شديدة، أو رفضت ذلك التوجّه الاستداني ككل، وسعت إلى بناء اقتصاداتها وتصحيح اختلالاتها الهيكلية بقدراتٍ ذاتيةٍ أو بدعم خارجي محدود وجزئي من دول وجهات تمويل أخرى، تضمن استرداد ديونها من دون شروط تدمر بأكثر مما تدعم.
ومن طريقة مصر في إدارة الاقتصاد وكيفية مواجهة مشكلاته في العقد الماضي، يمكن بسهولة اكتشاف أن القائمين على الأمر والمتحكّمين في توجيه دفّة الأمور اقتصادياً وسياسياً، تعوزهم الخبرة العملية وينقصهم التأهيل العلمي الكافي لإدارة البلاد، ووضع السياسات العامة وتنفيذها، فلو أن أحدهم اطّلع، ولو سريعاً، على تجارب الدول التي استعانت بصندوق النقد، وطبّقت وصفاته، لما جرؤ على تكرار ذلك الخطأ التاريخي. ولو أن أياً من أولئك القابضين على السلطة يملك قدراً، ولو بسيطاً، من العلم والمعرفة الاقتصادية، لأدرك، من أول يوم له في موقعه، أن سياسات الصندوق تتعلّق بجانب واحد فقط من جوانب أي أزمة اقتصادية هيكلية لأي بلد، وهو المتعلق بأزمة السيولة والعجز المالي المباشر، الناجم عن ارتفاع حجم الديون العامة. وعليه، يعكس وصف خطط الصندوق واقتراحاته بأنها "إصلاح اقتصادي" قصوراً في الفهم وسوءَ تقدير لطبيعة الأزمة الاقتصادية التي تمرّ بها بلاده. ولعشرة أعوام متتالية، تكرّر مراراً ارتكاب الخطأ نفسه بحل أزمة الاقتصاد المصري، عبر استدرار الأموال لا أكثر. من دون توجيه تلك الأموال إلى إقامة مصانع أو تشغيل ما توقّف منها، أو منح حوافز استثمارية حقيقية، أو حتى الاهتمام بالتعليم والصحّة حجر الزاوية في أي توجّه جاد نحو تنمية شاملة، ولو في المدى البعيد.