الصوماليون والانطلاق نحو المستقبل
لم يذق مرارة الحرب والشتات والفوضى أحدٌ، مثلما ذاقها الصوماليون ثلاثة عقود مضت، جراء انهيار دولتهم وسقوطها على مشارف تسعينيات القرن الماضي. هذه التجربة المريرة، لغياب الدولة، تعيها الأجيال التي عاصرت الانهيار والأجيال التي عاشت حالة الانهيار، وحتى التي ولدت في المنافي والشتات، وانفصلت مكانيا عن الصومال، لكنها لم تستطع نسيان الوطن وعذابات أهاليها هناك.
هذه التجربة القاسية، لانهيار الدولة ومن ثم انهيار المجتمعات المحلية ودخولها في حروب طاحنة، خلفت ندوبا كبيرة في جسد الأمة الصومالية التي تحاول، منذ مؤتمر عرتا في العام 2000، لملمة جراحات الهوية والوطن الجريح، الذي تركه الجميع ينزف ويقتتل، وأوصدت في وجهه كل الأبواب.
عشرون عاما، وقبلها عشر سنوات من الاقتتال، والصوماليون يحاولون لملمة ما تبقى من بقايا دولةٍ كانت يوما من أهم دول منطقة القرن الأفريقي وشرق أفريقيا حضورا، عدا عن أنها كانت أول تجربة ديمقراطية وليدة في العالم الثالث كله حينها.
تحتاج الديمقراطية لاكتمال شروطها الظرفية والموضوعية والثقافية، وأهم شروطها عامل الزمن والسيرورة التاريخية في تحولات المجتمعات وتطوراتها الاجتماعية
الأزمة الصومالية الراهنة، بين السلطة والمعارضة، مجازا، أو ما يطلقون عليهم اتحاد المرشحين للرئاسة، ليست وليدة اللحظة، بقدر ما هي من تداعيات الأزمة المركزية والجوهرية، انهيار الدولة، ومحاولات إستعادتها المعقدة والشاقة والطويلة أيضاً، وما لم يعِ العقلاء الصوماليون هذه الحقيقة جيدا، فإن كل جهود إعادة بناء الدولة الصومالية، ستذهب سدى، وسيعود المجتمع مرة أخرى إلى نقطة الصفر.
الحديث اليوم في الصومال، عن الديمقراطية في صورتها "المثالية" في مجتمع قبلي خارج من حروب طاحنة عقودا هو تجاوز للواقع السياسي والاجتماعي للبلاد، ومحاولة القفز في الهواء، خصوصا أن قصة التجربة الأولى للديمقراطية الصومالية، التي دشنها الزعيم آدم عبد الله عثمان، كتب لها الفشل السريع، لأنها كانت قفزا فوق شروط الواقع الاجتماعي حينها، باعتبار القبيلة أهم مكونات المجتمع، تاريخيا وراهنا. ومن ثم لا يمكن تجاوز هذه الحقيقة، والحديث عن ديمقراطية مثالية في مجتمع تشكل ولاءاته القبلية أهم محرّكات السياسة الرئيسية.
وهذا قطعا لا يعني أن المجتمعات القبلية استبدادية لا يمكن دمقرطتها، وإنما أن التحول الديمقراطي السريع في هذه المجتمعات لا يجدي، وإنما تحتاج الديمقراطية لاكتمال شروطها الظرفية والموضوعية والثقافية، وأهم شروطها عامل الزمن والسيرورة التاريخية في تحولات المجتمعات وتطوراتها الاجتماعية والثقافية والسياسية، خصوصا أن القبيلة متجذّرة بعاداتها ومترسّخة في عمق المجتمع ذهنية الولاء القبلي، وأن تفكيك هذه الذهنية القبائلية في رؤيتها للدولة والسياسة، الزمان والتعليم وحدهما كفيلان بها. فالحديث اليوم عن الانتخابات الديمقراطية المباشرة بالصومال سابق لأوانه، وسابق لأولوياتٍ كثيرة، في مقدمتها استكمال كتابة الدستور الصومالي والمصادقة عليه، وبعدها تقوية مؤسسات الدولة الأمنية والعسكرية، واستكمال تحرير المناطق التي تسيطر عليها جماعة الشباب، ومقاربة ملف الإرهاب بمقاربات تنموية وتعليمية وسياسية وثقافية ودينية أيضا.
قطعا، لا يعني هذا، تجاهل مسألة الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، وكيفية التحضير لها، وإنما يعني أن الأولوية اليوم هي لكل الحلول السياسية التوافقية التي تضع في حسبانها ونصب عينيها، المحافظة على كيانية مؤسسات الدولة الصومالية الناشئة، يعني أن تُغلب الحلول التوافقية على ما سواها. يعني هذا، أن الوضع الرخو للإجتماع السياسي الراهن يتطلب من كل العقلاء الصوماليين السعي نحو الحوار الجاد والمسؤول، للبحث عن حلول توافقية وطنية لكل مراحل التحول التي سيمر بها المجتمع والدولة الصوماليان خلال العقد المقبل، وعلى قاعدة الحفاظ على فكرة الدولة الناشئة والوليدة وكيانيتها.
الأمل أن يصل الصومال إلى حلول وطنية مُرضية للجميع، وتفويت الفرصة على الدول التي ترى دولةً بلا شعب، فتسعى للسيطرة عليها
وقبل هذا كله، يجدر اليوم بالساسة والنخب الصومالية المختلفة أن تعي الدرس الصومالي السابق جيدا، وهو ما يعني فهم المعادلة الدولية والإقليمية وتأثيراتها وسياقاتها وتقاطعاتها مع مصالح الداخل الصومالي وجواره الإقليمي، هذا الدرس الذي يجب ألا يُغفل في معادلة الصراع السياسي الراهن في الصومال، وأن الظرف الدولي الراهن لا يزال مؤثراً وفاعلا في كثير من ملفات وقضايا المنطقة والإقليم، وفي القلب من ذلك الصومال، ومحاولة تجاوز هذه الحقائق تعني الاصطدام، مجدّدا، بكل هذه التعقيدات والعوائق التي يدركها الصوماليون جيدا.
قد تلقى وجهة النظر هذه موافقين ومعارضين كثيرين لها، لكنها تبقى محاولة للإسهام في الحفاظ على هذه التجربة الصومالية المنبعثة من ركام سنوات الحرب، هذه الحرب اللعينة التي تلتهم مجتمعات في الجوار الصومالي، وفي غير مكان في القرن الأفريقي المثخن بجراح الحروب المستمرة والدامية. والأمل أن يتجاوز الصومال هذه المآزق، بحلول وطنية مُرضية للجميع، وتفويت الفرصة على الدول التي ترى دولةً بلا شعب، فتسعى للسيطرة عليها. ومن متابعته وتواصله بزملاء وأصدقاء الصوماليين من طرفي الأزمة، يجد كاتب هذه السطور وعيا سياسيا كبيرا، يكبر كل يوم، لا يمكن في ظله الحديث عن الاستبداد والانفراد بالقرار السياسي الصومالي، كما لا يمكن الحديث معه عن التصعيد العدمي نحو العنف والفوضى التي تجاوز المجتمع الصومالي عقدتها، وتحصّن ضدها كثيرا.