الصومال وإعادة التموقع الإقليمي
منذ انتخاب حسن شيخ محمود رئيسا للصومال في مايو/ أيار الماضي، تبدو أولويات الإدارة الجديدة في "فيلا صوماليا" منصبّة على إعادة صياغة موقع الصومال في الإقليم؛ فقد زار الرئيس شيخ محمود ثماني دول في غضون شهرين من رئاسته، وقبل التصديق على الحكومة الجديدة، الإمارات وتركيا وكينيا وجيبوتي وتنزانيا وإريتريا ومصر وأوغندا، وهي دولٌ شهدت علاقاتها مع الصومال توترات في فترة الرئيس السابق محمد عبدالله فرماجو.
يعني هذا، ضمن ما يعني، أن إدارة حسن شيخ تعطي أولوية لملف إعادة تموقعها الإقليمي على حساب الأزمات الداخلية العاصفة، مثل مكافحة الإرهاب وموجة الجفاف الجديدة التي تدقّ المنظمات الدولية ناقوس الخطر بشأنه، والتي تُوصف بأنها الأسوأ منذ نصف قرن، وتهدّد بمجاعة حقيقية بفعل التصحّر والتغير المناخي الذي تدفع ثمنه دول الجنوب الفقيرة.
وتحت الشعار الرنان الذي خاض فيه حملته الانتخابية "صومال متصالح مع نفسه ومع العالم"، يحاول الرئيس الجديد استعادة العلاقات الدبلوماسية المتعثرة مع الجوار، ففي 15 الشهر الماضي (يوليو/ تموز)، وقّع محمود مع نظيره الكيني، أوهورو كينياتا، اتفاقية لإعادة العلاقات التي قُطعت في عهد سلفه فرماجو. وبموجب الاتفاقية، تستأنف كينيا تصدير القات إلى الصومال. وفي المقابل، ستستورد نيروبي السمك من مقديشو. وهي اتفاقيةٌ أثارت انتقادات في الأوساط الصومالية ووصفت بأنها مجحفة وغير عادلة، ففي غضون ثلاثة أيام فقط، حققت نيروبي مليوني دولار من تصدير القات إلى مقديشو، بينما تحوم شكوك بشأن جدّية تصدير السمك الصومالي إليها، فكينيا تشترك بحدود ساحلية طويلة مع الصومال، وليس ثمة مبرّر مقنع لاستيراد السمك منها.
أفورقي هو من ألهم الرئيس الصومالي السابق، فرماجو، باستنساخ تجربته الديكتاتورية للبقاء على السلطة
كذلك مرّ قطار إعادة ترميم العلاقات مع الجارة جيبوتي، حيث شهد البلدان (الشقيقان) في السنوات الخمس الماضية توترات دبلوماسية غير مسبوقة، منذ الدور الذي لعبته جيبوتي في تنظيم مؤتمر عرته في عام 2000، والذي صاغ العملية السياسية في صومال ما بعد الحرب. تفجّر هذا الخلاف تحديدا بإقصاء جيبوتي عن التحالف الإقليمي الثلاثي بين الصومال وإثيوبيا وإريتريا، وأدّى إلى شعور جيبوتي بالنبذ الإقليمي، ودفعها إلى تشكيل محور إقليمي مضادّ يضم نيروبي وهرجيسا. وقد حاول الرئيس الجديد تبديد هذه المخاوف في زيارته جيبوتي في منتصف الشهر الماضي (يوليو/ تموز)، ووعد من خلالها بإقامة علاقة متينة معها، ويتعزّز هذا الأمر مع اضمحلال المحور المضاد، خصوصا أن العاصمتين المجاورتين، نيروبي وهرجيسا، تشهدان تحولاتٍ داخلية، مع إفرازات الانتخابات الكينية، وهرجيسا التي تنتظر موعد انتخاب رئيسٍ جديدٍ يُحتمل أن يأتي بالمعارضة للسلطة مع نهاية العام الحالي.
ويعدّ الديكتاتور الإريتري، أفورقي، الزعيم الفعلي لمحور أديس أبابا مقديشو أسمرا. وهو كان العقل المدبر للحرب الوحشية ضد تيغراي في إثيوبيا، وشارك بالحرب من خلال إرسال سلاح وجنود إلى ساحاتها. لكنها حرب انتهت بهزيمة مأساوية للجيش الإثيوبي الذي انسحب من المعركة على يد قوات التيغراي. ما يهم هنا أن أفورقي هو من ألهم الرئيس الصومالي السابق، فرماجو، باستنساخ تجربته الديكتاتورية للبقاء على السلطة، وأرسل الأخير جنودا صوماليين إلى إريتريا سرّا، وهذه مسألة لفّها غموضٌ كثير، وواكبتها انتقادات كبيرة. ففي أواخر العام الماضي (2021)، أصدر المقرّر الخاص للأمم المتحدة المعني بحالة حقوق الإنسان في إريتريا، تقريرًا يأتي على إرسال مجنّدين صوماليين إلى تيغراي للقتال إلى جانب القوات الإريترية والقوات الفيدرالية الإثيوبية. وقدّمت المعارضة الصومالية وقتها مزاعم مماثلة، كما تحدّث مدنيون للصحافة بأن أبناءهم قد جرى تجنيدهم تحت ذرائع كاذبة، مثل الوعد بوظائف أمنية في قطر. في الداخل، أصبح غضب هؤلاء الآباء الصوماليين قضية سياسية ساخنة، أطاحت شعبيه الإدارة الصومالية السابقة، لكن مغامرات فرماجو انتهت بلا جدوى؛ حيث خضع، في النهاية، للضغوط الدولية بعقد انتخابات رئاسية خسرها على نحو ساحق. وفي زيارته إريتريا في الـ19 من الشهر الماضي (يوليو/ تموز) تحقّق الرئيس الجديد من الجنود الصوماليين الذين جرى إرسالهم إلى إريتريا، وأمر بإعادتهم إلى البلاد.
موقف الصومال صريح وواضح تجاه ملف مياه النيل، "أن تستغل دول حوض النيل مياهه بطريقة منصفة"
بطبيعة الحال، اختلفت أولويات الرئيس الجديد من بلد إلى بلد، لكنها حملت إعادة صياغة جيوسياسية وإعادة تموقع إقليمي جديد للصومال، وتأكد هذا من زيارة الرئيس مصر تلبية لدعوة من نظيره المصري عبد الفتاح السيسي، وهي زيارة بدت رسالة سياسية إلى أديس أبابا. وقد ذكر السيسي، في المؤتمر الصحافي المشترك مع شيخ محمود في القاهرة، أنهما اتفقا على التحذير من "خطورة السياسات الأحادية في ملف سدّ النهضة"، لكن متحدّث الرئاسة الصومالية، عبد الكريم علي، نفى تطرّق الرئيس محمود إلى ملف مياه النيل خلال لقائه مع نظيره المصري، ما بدا حذرا تبديه مقديشو بشأن اقتحام هذا الملف الشائك. واقتصر على التصريح بأن موقف الصومال صريح وواضح تجاه ملف مياه النيل، "أن تستغل دول حوض النيل مياهه بطريقة منصفة".
وأيًا يكن، فمن المرجّح أن القاهرة تراهن على دعم شيخ محمود موقفها في هذا الملف، وهو ملف مياه النيل التاريخي، الذي انضمت بدواعيه الصومال إلى جامعة الدول العربية في بداية السبعينيات. والملاحظ أن الرئيس الجديد حليف سابق لدى القاهرة في ولايته السابقة (2012-2016)، على خلاف فرماجو الذي تحفّظت إدارته على قرار للجامعة، صيف 2020، يطالب إثيوبيا بالامتناع عن البدء في ملء خزّان سد النهضة من دون التوصل إلى اتفاق مع مصر والسودان عن قواعد الملء والتشغيل. وقد تفاقم الخلاف بين القاهرة ومقديشو حين ألغت حكومة فرماجو، في عام 2020، بروتوكول التعاون التعليمي مع القاهرة، وطالبت بعثتها التعليمية بمغادرة البلاد. وجدير بالذكر أن الرئيس الجديد لم يزُر أديس أبابا بعد، ما يعزّز فرضية أن إدارته تنظر إليها بأنها خصم إقليمي جديد. وما يرجّح هذا الأمر أن إدارة محمود التزمت الصمت تجاه تغولات لحركة الشباب المجاهدين غير مسبوقة في الحدود الإثيوبية. وبالنتيجة، يمكن القول إن علاقة البلدين دخلت مرحلة جديدة تتسم بالفتور.
أضحى الصومال ضحية للأزمة الدبلوماسية الخليجية التي اندلعت في عام 2017
وفي ما يتعلق بالعلاقة مع تركيا فهي استراتيجية. لا تتدخل أنقرة في الشؤون الداخلية الصومالية، على عكس أطرافٍ إقليمية أخرى استمرأت العكس. بما فيها الدول الخليجية، فقد قطعت حكومة فرماجو علاقاتها مع الإمارات، في حين اعتبرت قطر شريكًا مقرّبًا. ونتيجة ذلك، أضحى الصومال ضحية للأزمة الدبلوماسية الخليجية التي اندلعت في عام 2017.
وفي زيارته أوغندا، دعا الرئيس محمود، في بيان مشترك مع نظيره الاوغندي موسيفيني، الأمم المتحدة إلى رفع الحظر المفروض على الأسلحة لتمكين البلاد من تحمّل مسؤولياتها الأمنية. وقد انتقلت بعثة الاتحاد الأفريقي في الصومال (أميسوم) المدعومة من مجلس الأمن إلى البعثة الانتقالية الأفريقية في الصومال (أتميس) في إبريل/ نيسان الماضي، بعد استمرارها نحو 15 عامًا. ولأوغندا دورٌ حاسم في هذه البعثة، فهي واحدة من خمس دول مساهمة بقوات "أتميس". وقد حضر محمود في أوغندا، وبدعوة من الرئيس موسيفيني، أول قمة أوغندية - صومالية للاستثمار والأعمال. وتعهد موسيفيني بدعم الصومال في محاولته الانضمام إلى تكتل شرق أفريقيا التي تضم، إلى جانب أوغندا، كينيا وتنزانيا ورواندا وبوروندي وجنوب السودان. ووافق قادة مجموعة دول شرق أفريقيا على التعجيل بانضمام الصومال إلى الكتلة، ما يوفر تحسين فرص الاستثمارات والتجارة في المنطقة، وهو ملفُّ يمكن أن تُبنى عليه سياسة الصومال الخارجية على نحو بنّاء مع انتشار المستثمرين والشركات الصومالية في شرق أفريقيا.
قصارى القول، بدأت الإدارة الصومالية الجديدة تأخذ زمام المبادرة لإعادة هيكلة علاقاتها الإقليمية، ما سيُغيّر من الجغرافيا السياسية للقرن الأفريقي. تبقى المسألة الملحّة أن المشكلات التي تواجه الإدارة الجديدة مستعصية، وتحتاج اجتراح المعجزات في سبيل تجاوزها. أما ملف إعادة ترميم العلاقات الخارجية، وعلى الرغم من أهميته، فلن يأتي بحلولٍ سحرية، ما لم يتغير سلوك النخب السياسية التي استمرأت الارتماء في أحضان المحاور الإقليمية بحثا عن منافع آنية من دون بوصلة تضمن المصالح الصومالية. وهذا ما هو على المحكّ أمام الإدارة الجديدة في "فيلا صوماليا".