الضحية ومرآتها
يقول جدعون ليفي، أحد الأصوات القليلة الناقدة في الصحافة الإسرائيلية، إنّ إحدى الدعائم الرئيسة للفوقية الإسرائيلية، ولاحتقار الفلسطينيين والعرب عموماً، هي القناعة بأنّ الإسرائيليين ليسوا الضحية الكُبرى تاريخياً فقط، بل الضحية الوحيدة التي تستأهل الاعتراف العالمي، ما يجعل معاناة مجموعات أخرى، بما في ذلك الفلسطينيون، غير ذات أهمّية أو حتّى غير مرئية. نجحت الدعاية الإسرائيلية، إلى حدّ كبير، في تسويق خطاب الضحية، على مستوى النُّخَب الإعلامية والسياسية، عبر تقديم حقّ الدفاع عن النفس، المُترجَم في عنف غير مسبوق في أيّ نزاع، على أنّه السبيل الوحيد لمنع تكرار المحرقة النازية بأشكال جديدة منها دمار دولة إسرائيل، ورمزيتها عند اليهود حول العالم. من الضحية؟ أو من الجهة القادرة على ربح معركة التعاطف عبر القدرة على الإقناع بأنّها الضحية المثالية؟
في كتابها الصادر حديثاً Wronged: the weaponization of victimhood" (2024)" عن استخدام خطاب الضحية سلاحاً، تتحدّث أستاذة الإعلام والتواصل في كلّية لندن للعلوم السياسية والاقتصادية، ليلي شولياراكي، عن تحوّل ثقافة الضحية وسيلةً لحصد مزيد من الامتيازات لمن يملكها أساساً، ما عمَّق الفوارقَ الاجتماعية والاقتصادية عِوضاً عن إلغائها. تميّز بين من يستخدم خطابَ الضحية من أجل تحقيق مكاسبَ خاصّةٍ، في الصراع على من يستحقّ هذا التوصيف (من الضحية ومن المُعتدِي)، ومن تكون هُويَّته ضحيةً متجذرةً في تمييز عضوي مرتبط بظروف وجوده. تشمل الفئة الأولى من يستخدم خطابَ الضحية لتحقيق المزيد من السطوة، بما في ذلك متنازعون في قضايا الاعتداءات الجنسية، المشمولة في حراك (مي تو) من المشاهير، أو حركات اليمين المُتطرّف الشعبوية في استخدامها منصّات الإعلام الحديثة وسيلةً للتلاعب، في حين أنّ من هم ضحايا بفعل التمييز المتجذّر لا يملكون إمكانيةَ تسويق أنفسهم أو الدفاعَ عن حقّهم في الاعتراف بوضعهم ضحايا، لعدم إمكانية وصولهم إلى منصّات الإعلام، بما يتيح لهم الانتقال من عتمة التجاهل إلى ضوء الاعتراف. في ظلّ هذا الاستخدام للإعلام، خصوصاً في منصّاته الحديثة، باتت ثقافة الضحية وسيلةً لتحصيل المزيد من السيطرة لأصحاب السطوة، لا لتحقيق العدالة للضحايا الفعليين. بذلك، باتت هذه الثقافة مناسبةً لتعميق التهميش الذي تعانيه الضحية عبر تعميق عجزها لغياب صوتها. عوضاً عن مقارعة أصحاب السلطة، تُؤدّي ثقافة الضحية إلى تعزيز سلطة القوي.
ينفي محلّلون حقّ الضحايا في الاعتراف بمعاناتهم، بمن فيهم الذين باتت حيواتهم أقلّ من أن توصف بالإنسانية
يُقدِّم ضحايا حرب الإبادة الاسرائيلية في غزّة، وضحايا آلة القتل الإسرائيلية في لبنان، توصيفاً لـ"الضحية" بامتياز. قتل حتّى الآن 42 ألفاً و400 شخص، على الأقلّ، وأصيب أكثر من 99 ألفاً بجروح، منها إعاقات مستدامة منذ أكتوبر (2023) في غزّة. في لبنان، هناك 2350 ضحيةً في المقتلة الإسرائيلية، في حين هُجِّر 25% من سكّان لبنان من بلداتهم وأحيائهم، منهم 400 ألف طفل، وبات 1.2 مليون طالب خارج الدراسة، بعدما باتت المدارس غير قابلة للاستخدام بفعل التدمير، أو لاستخدامها مأوى للنازحين، بحسب أرقام الأمم المتّحدة. ليس القتل وحده المسألة هنا، ولو أنّ الحصيلة واحدة، إنّما كيفية القتل وبطشه الشديد الذي ينفي إنسانية الضحية. شاهدنا ولا نزال نشاهد صوراً مروِّعةً لم يكن ليخيّل إلينا أنّنا سنشاهدها يوماً ونعتاد عنفها. الشابّ شعبان الدلو احترق في خيمته في دير البلح، وتحول مشهدُ احتراق لحمه الحيّ أيقونةً. قُتِلت الطفلة هند رجب وحيدةً بين جثث عائلتها في سيارة تعرَّضت لـ300 طلقة نارية، بعدما قضت ساعاتٍ في هذا الرعب، وبعدما حاول فريق إنقاذٍ الوصول إليها، وقتل أفراده أيضاً. في بلدة أيطو اللبنانية، نقلت التقاريرُ الإخبارية صورَ فرق الإنقاذ تلتقط قِطعاً من جثث القتلى، في حين تناقلت وسائل التواصل صورَ جثثٍ تطايرت وعلقت بشجر مبانٍ مجاورة، وطفل في غزّة تلاحقه مُسيَّرة.
قتلانا هم ضحايا بامتياز. الذين سقطوا سابقاً والذين سيسقطون في المستقبل. بإمكاننا أن نكتب مجلَّداتٍ عن بأسهم، وقلَّة حيلتهم، وبشاعة قتلهم. تتيح قصص قتلهم المرعبة إنتاجَ أفلام خيال غير مسبوقة في رعبها. رغم هذه المأساة كلّها، لا يريد إعلامنا الاعتراف بهم ضحايا سقطوا في بطش غير مسبوق، بل لا يُسمَح لنا بالبكاء عليهم أو حتّى الحزن على مصيرهم. هم أبطال شهداء، "ارتقوا" شهداءَ، وهو تعبير جديد دخل قاموس الإعلام العربي في وصف ضحايا آلة الحرب الإسرائيلية. جيش من المُحلّلين على الشاشات يجهد ليقنعنا أنّ النصر قريب، وأنّ ثمّة إمكاناً لمقارعة آلة القتل الرهيبة وكسرها عبر مكاسب أو أهداف محدودة. في خطابهم الخشبي البعيد عن الواقع، ينفي هؤلاء المحلّلون المتأنّقون حقّ الضحايا في الاعتراف بمعاناتهم بما في ذلك أولئك الذين باتت حيواتهم أقلّ من أن توصف بالإنسانية، وباتوا ينتظرون مقتلهم في مبنى يُدمَّر أو خيمةٍ تحرق.
أصبحت ثقافة الضحية وسيلةً لتحصيل مزيد من سيطرة أصحاب السطوة، لا لتحقيق العدالة للضحايا الفعليين
تقدّم الفيديوهات التي توزّعها الصحافية الشابة بيسان، من غزّة، مشاهدَ من حياةٍ لا يمكن تحمّلها نظراً إلى الافتقار إلى الحدّ الأدنى من مقوّمات الاستمرار، تقول مثلاً إنّها تستيقظ عند الرابعة فجراً لدخول الحمَّام لتفادي ثلل الانتـظار من عشرات المقيمين في الخيام. يلوك هؤلاء المحلّلون بخطاب البطولات والانتصار المزعوم، في حين يقدّم الواقع صوراً غير مسبوقة لقتل مروّع ونزع إنسانية أكثر من مهين. يلوك أيضاً بعضنا الخطاب نفسه في حين أنّنا ننعم برفاهية دول الغرب وأمنها حيث نعيش.
أقلّ حقوق ضحايانا هو أن نعترف بمعاناتهم، ونجلّها، ليس بوصفهم "أبطالاً" كما تريد أبواق إعلامنا أن يقنعونا، بل باعتبارهم ضحايا قتل غير مسبوق يجعلهم متساوين مع ضحايا آخرين، يحتفل بذكراهم الإعلام الغربي، ويُجلّها كلّ يوم. كثير من الحزن وقليل من التطبيل.