الطائفة بمواجهة الفرد في قوانين الأسرة العربية
تواجه الدولة في المجتمعات المتعدّدة دينياً معضلة إيجاد الصيغة المناسبة للتوفيق بين حقوق الجماعات والأقليات الدينية في الاحتكام لشرائعها وتقاليدها المنظّمة للأحوال الشخصية من زواج وطلاق وحضانة ومواريث، وبين واجب الدولة في ضمان حماية متساوية من دون تمييز لجميع مواطنيها، بصرف النظر عن انتماءاتهم العقائدية والطائفية. ولا ينبغي أن يكون انتماء الفرد لإحدى الجماعات الدينية في الدولة مبرّراً لجعله تحت أسر قواعد هذه الجماعة من دون ضمان حريته في الاختيار، وحقه في التمرّد على خضوعه لهذه القواعد. في السياق القانوني العربي، خصوصا في دول مثل لبنان والعراق ومصر والأردن وفلسطين، فإن ضمان حقّ الأفراد في الدولة الواحدة للاحتكام لقانون أسرة مدني موحّد ينطبق عليهم جميعاً بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية والطائفية من القضايا المهملة، والتي لا تحظى باهتمام كبير من صنّاع القرار والسياسيين، رغم ما ينجم عنها من تعقيدات اجتماعية وقانونية تمسّ الحياة اليومية لمواطنين كثيرين. لم تنجح المحاولات المتعدّدة في بعض البلدان، مثل لبنان ومصر، في العقد الأخير لوضع قانون مدني موحّد للأحوال الشخصية، حيث تواجه مثل هذه القوانين مقاومة من القيادات الطائفية والدينية، كما أنها لم تحظ بأولوية في النقاش المجتمعي مع التقلبات السياسية والاقتصادية التي عصفت ببلدان المنطقة خلال الأعوام الأخيرة. وقد طرحت مسألة المساواة والتمييز في ظل قوانين الأحوال الشخصية للمسلمين وغير المسلمين من جديد في مصر في إطار جلسات الحوار الوطني المخصّصة لموضوع القضاء على كل أشكال التمييز بين المصريين.
يؤسّس القانون، في دول عربية مثل لبنان، لعزل شامل بين الطوائف الدينية، ضمن تشريعاتها المنظّمة للأحوال الشخصية. وفي مصر، وعلى الرغم من الاستقلال الذي يحظى به غير المسلمين في الاحتكام لشرائعهم، تظلّ الشريعة الإسلامية القانون المنظّم في حال اختلاف الملة، أو في تنظيم المواريث. أضافت دساتير ما بعد الثورة المصرية المادة الثالثة من الدستور، والتي تنصّ على أن "المبادئ الكنَسية للمسيحيين واليهود المصريين هي المصدر الرئيسي للتشريع لقوانين الأحوال الشخصية والشؤون الدينية واختيار قادتهم الروحيين". وقد اعتبر مراقبون عديدون هذه المادة خطوة إلى الأمام بالنسبة لحقوق غير المسلمين، لأنها كانت المرّة الأولى التي يعترف فيها دستور بوجود طوائف دينية أخرى في مصر، ويضمن استقلاليتهم القانونية في شؤونهم الدينية والعائلية. وبالنسبة لحقوقيين مصريين كثيرين فإن من المفترض أن تحقق هذه المادة استقلالية لغير المسلمين في تطبيق أحوالهم الشخصية في كل المجالات بما فيها المواريث، من دون الاحتكام للشريعة الإسلامية، وهو المبدأ الذي أقرّته بالفعل بعض المحاكم المصرية في السنوات الأخيرة بفضل التقاضي الاستراتيجي لمنظمّات حقوق الإنسان المصرية، وتنظر المحكمة الدستورية العليا حالياً في دستوريّته.
تعاني النساء غير المسلمات من ضياع كثير من حقوقهن في إطار الزواج المختلط مع المسلمين
على الجانب الآخر، تكرّس الاستقلالية الطائفية التي تضمنها هذه المادة التمييز الديني بين المصريين، وتجعل الفرد سجيناً للإجراءات التي تقرّها جماعته الدينية. لقد عانى سنواتٍ كثيرون من أعضاء الكنيسة القبطية الأرثوذكسية من تعنّت القانون المطبق عليهم في إقرار الطلاق، والحصول على إذن بالزواج الثاني بعد الطلاق. وقد اضطرّ مواطنون مصريون مسيحيون كثيرون طوال العقود السابقة لتغيير ملتهم أو إشهار إسلامهم لكي تطبق عليهم الشريعة الإسلامية، ويستطيعوا الحصول على الطلاق. لكن كثيرين من هؤلاء المصريين لم يتمكّنوا من العودة إلى المسيحية بسبب اعتبارهم مرتدّين عن الإسلام من وزارة الداخلية ومحاكم مصرية كثيرة.
من ناحية أخرى، تعاني النساء غير المسلمات من ضياع كثير من حقوقهن في إطار الزواج المختلط مع المسلمين، حيث حرم القانون المصري التوارث بين المسلمين وغير المسلمين، ويضع قيودا علي حق الأم غير المسلمة في الاحتفاظ بحضانة أطفالها في حال تم الطلاق من زوجها المسلم أسوة بالأم المسلمة. كما أن جماعات دينية تعيش في مصر منذ عقود طويلة، مثل البهائيين، لا تعترف بها الدولة بالأساس، ومن غير المسموح لأفرادها بالاحتكام لقواعدها في الأحوال الشخصية، خصوصا في ظل الدستور المصري الحالي الذي لا يعترف بالحقّ في ممارسة العقائد والشعائر الدينية سوى لأتباع الإسلام والمسيحية واليهودية. وتكمن هنا أهمية أن تتيح الدولة حرّية الاختيار لمواطنيها بين الاحتكام للقواعد التي تمليها الطائفة وحق الفرد في أن يجد الحماية التي تقتضيها حقوق المواطنة من الدولة، بصرف النظر عن المعتقد أو الطائفة التي ينتمي إليها.
على الدولة أن تتيح حرية الاختيار لمواطنيها عبر إقرار قانون مدني موحّد، يكون احتكام المواطنين إليه اختياريا
لقد انشغل الفكر الليبرالي المعاصر في ظل سيادة التعدّدية الثقافية والدينية في مجتمعاتٍ كثيرة اليوم بأهمية تحقيق هذا التوازن الدقيق بين حقوق الجماعات في الحفاظ على تراثها وتقاليدها وحقوق الأفراد المنتمين لهذه الجماعات في ألا يتم سحق حقوقهم باسم حماية هوية الجماعة. وكانت لجنة الأمم المتحدة المعنيّة بالقضاء على التمييز ضد المرأة قد دعت الحكومة المصرية عام 2010 إلى "النظر في إصدار قانون أسرة موحَّد للأحوال الشخصية يشمل المسلمين والمسيحيين".
في هذا السياق، اجتمعت حركة حقوق الإنسان المصرية عام 2011 في وثيقة الأحكام الأساسية للدستور، والتي عرفت ببردية حقوق الإنسان، والتي أعاد المنبر المصري لحقوق الإنسان طرحها عام 2019، على "عدم فرض تشريعات تنظم حياة المواطنين في المجال الخاص بشكل يتناقض مع معتقداتهم، أو تنظّم المجالين العام والخاص بشكل يتناقض مع ضمانات حقوق الإنسان والحرّيات العامة". لكن حرية الاختيار كانت في أذهان واضعي هذه الوثيقة، ومطالبهم في ذلك الوقت بأن تكون هناك اختيارات عقائدية متعدّدة أمام الأفراد، لكن في إطار حماية المساواة وحقوق المواطنة.
يظل الطابع الطائفي لقوانين الأسرة العربية وغياب مرجعية قانونية مدنية حاكمة لجميع الأفراد بصرف النظر عن معتقداتهم الدينية سبباً في معاناة كثيرين في المجتمعات العربية، خصوصا النساء والأطفال، والأقليات الدينية المستبعدة من اعتراف الدولة القانوني بها. سيكون من الصعب في السياق الاجتماعي والسياسي العربي الراهن الدعوة إلى الاحتكام فقط لقانون أحوال شخصية موحّد وإلغاء القوانين ذات الصبغة الطائفية. ولكن على الدولة أن تتيح حرية الاختيار لمواطنيها عبر إقرار قانون مدني موحّد، يكون احتكام المواطنين إليه اختياريا. من ناحية أخرى، الجماعات والطوائف الدينية مدعوّة إلى تطوير اجتهاداتها الدينية من داخل سياقاتها الفكرية والفقهية للإنهاء التدريجي لصور التعسف والتمييز في قواعدها المنظّمة للعلاقات الأسرية بين الرجال والنساء.