الطاغية الجائع والطاغية الشبعان: الاختيار
أسوأ ما يمكن أن يصيب تجمعًا بشريًا، شعبًا في دولة أو أعضاءً في فريق، أو فريقا في مؤسسة، أن يصل به اليأس إلى ادّعاء العجز، وأن يصل به التسليم بالعجز إلى ملاطفة الرديء القائم كي لا يرحل فيحلّ محله الأردأ منه.
شيء من ذلك تجده في العلاقة مع الاستبداد والطغيان وتحوّلاتها العنيفة، من مقاومة الاستبداد ورفضه بالمطلق، إلى التسليم به والتعايش معه، ثم ملاطفته بحجّة خفض مستوياته أو تجميدها عند حدودها الحالية، بحيث لا تصل إلى المستويات عالية المخاطر.
الاستسلام لحالة العجز الكامل، سواء كان هذا العجز مصطنعًا أو معبرًا بالفعل عن مستوى قدرة هذه الجماعة البشرية في لحظة ما من عمرها، يدفع بها إلى تبنّي منطقٍ يقول إن الطاغية الذي نعرفه أفضل من الطاغية المجهول، بحيث تختفي تمامًا من القاموس فكرة النضال والمقاومة سبيلًا للتخلص من الطغيان والقمع.
اللافت أن بعض الذين يروّجون فكرة الانحناء أمام عواصف سلطة الاستبداد السياسي كي تمر بأقل الخسائر والأضرار، هم أنفسهم الذين يحرّضون على القتال ضد ما يرونها سلطات أخرى في دوائر اجتماعية أضيق، مثل سلطة الأب، أو الأسرة عمومًا. سلطة المعلم في المدرسة أو الجامعة .. سلطة المرجعية الروحية لرجل الدين، وهي السلطات التي لا يصحّ التهاون معها، أو حتى التفاوض، بنظر الذين يلاطفون سلطة الطغيان السياسي بذريعة العجز عن مواجهتها أو معاداتها، وبحجج كثيرة، في مقدمتها الاستعطاف من أجل الحصول على بعض الفتات من الحرية لبعض الناس.
يطالبك هؤلاء بالسكوت والكفّ عن مضايقة الطاغية الذي نعرفه، ويخوّفونك بالطاغية المختبئ في أحراش المجهول متوثبًا للانقضاض، حال زوال الطاغية الحالي، ثم يحاولون إقناعك بأن ملاطفة غول القمع من الممكن أن تجعله أقل قسوةً وأكثر وداعةً، بل وبالإمكان مصادقته والتعاون معه.
يصبح الأمر أكثر فداحةً عندما يجري التعاطي مع الاحتلال بالمنطق ذاته المتبع مع الطغيان والاستبداد، بحيث ينخفض سقف الأحلام والمطالب من التحرير الكامل للإنسان والأرض، إلى التعايش مع سلطة الاحتلال، ليس بوصفها العدو، وإنما الشريك، ومن ثم يجب الحرص على عدم استفزازها واستثارتها، علها تكون ألطف وأقل خشونةً وعنفًا، من أجل تحسين ظروف الخاضعين لحكمها.
ينشط هؤلاء وأولئك في إعطاء الدروس في كيفية الحصول من الطغيان والاحتلال على أفضل المكاسب، باعتماد نظرية الملاطفة والمهادنة طريقًا وحيدًا لصياغة العلاقة بهما، وهي النظرية التي تجعل المقاومين لهاتين الآفتين، بنظر عقلاء الملاطفة وحكماء المهادنة، مجموعة من المجانين والمخرّبين والمزايدين الذي يعرّضون مصير المجموع للخطر.
ينطلق هؤلاء من فكرة قديمة تجدها في حكايات وأساطير مدفونة في قاع التاريخ، على عمق قرون قبل الميلاد، إذ يعد حكيم الإغريق في العصور الغابرة، أيسوب، هو الرائد في نظرية الإذعان للطاغية الذي نعرفه، بدلًا من الذي لا نعرفه.
تقول الأسطورة إن أيسوب كان يتحدّث وسط الجمهور المحتشد في جزيرة ساموس Samos للتداول في كيفية التخلص من أحد الحكام الطغاة، فحكى لهم حكايةً عن الثعلب الذي كان يعبر النهر ذات مرّة، فسقط في أخدودٍ عميق، وباءت كل جهوده للخروج بالفشل. وإلى جانب ألوان العذاب التي كان عليه أن يتحمّلها الثعلب، كان يعذّبه سرب القرّاد (مصّاصو الدماء) الذي حطّ عليه والتصق بجسده. ومرّ به قنفذ، فأسف أسفًا شديدًا لوضع الثعلب، فسأله أيقوم بالتقاط القرّاد؟ لكن الثعلب أجاب: كلا! فقال القنفذ: ولم لا؟ فأجاب لأنها نالت مني بالفعل وجبة دسمة، ولن تريد الآن مزيدًا من مصّ الدم، لكنك إن أبعدتها عن جسدي سيأتي سربٌ آخر جائع تمامًا ليشرب كل نقطة في دمي. ثم قال أيسوب: هذا هو موقفي معكم، يا شعب ساموس، هذا الرجل لن يضرّكم أكثر من ذلك، لأنه أصبح غنيًا، لكنكم لو قتلتموه سوف يأتي غيره ممن لا يزال جائعًا يظلّ يسرق ويغرف من خزائنكم حتى يأتي عليها.
لا تزال هذه الحكاية الأسطورية العتيقة عن الثعلب ومصّاصي الدماء سارية المفعول، ويا لها من حكمة بائسة تلك التي تصوّر الحلم بالتغيير والتحرّر على أنه جنون وتهور يهدّد حياة الناس بالفناء. وبالتالي، ليس ثمة وسيلة للبقاء على قيد الحياة سوى الرضا بمصّاص الدماء الذي ارتوى، كي لا يأتي مصّاص دماء جديد جائع.