الطبقة الحاكمة في العراق
في كلّ عهدٍ سياسيٍ عراقي طبقة حاكمة طال أم قصر زمنها، لا تتغير إلّا بثورة شاملة أو بانقلاب عسكري أو باحتلال أجنبي. وربما عانت دول عربية أخرى من طبقات حاكمة، لكن تعدّ في العراق طبقة حاكمة غير سياسية، وهي لا تجيد ممارسة السياسة بكلّ فنونها، على الرغم من أنّ للطبقة السياسية في كلّ بلد سماتها، وهي تتطور حسب المتغيرات، كما يقول معجم بلاكويل للعلوم السياسية. ويختلف حال الطبقة الحاكمة في العراق عن مفهوم النخبة السياسية قلباً وقالباً، إذ لا وجود لنخب سياسية عراقية منذ أكثر من ستين عاماً مضت، فقد أنتج الفراغ السياسي انتفاء الأعمال القيّمة والممارسات السياسية العليا! وخصوصاً، بعد حكم عسكري ودكتاتوري أكثر من نصف قرن. وعليه، لم يحيَ العراق منذ عام احتلاله 2003 إلّا بوجود طبقةٍ حاكمةٍ أوليغارشية تهمّها مصالحها، ومعتمدة على أحزاب دينية وطائفية وقوى متشيطنة أميركياً ومتغوّلة إيرانياً، وفرضت سيطرتها من خلال المال والفساد والعلاقات المشبوهة! اليوم، لا نجد أيّ تسلسل فكري ولا أيّ رؤية أيديولوجية، ولا أيّ قيم سياسية بغياب المواريث السياسية التي عرفت منذ أكثر من قرن مضى.
هيمنة الطبقة الحاكمة وبقاء الوجوه نفسها تتحرّك على المسرح، وهي لا تمتلك أيّ مشروعية وطنية ولا ديمقراطية، ولا خبرات إدارية وسياسيّة، لكنها نتاج مواريث دينية مذهبية، جعلت أوعيتها الشعبوية تمارس خياراتها العاطفية وولاءاتها الحزبية وكأنها تنتخب الله في الأرض، ولا تسمح أن يعارضها أحد، ما جعلها تزداد تورّماً وهيمنة وسطوة، وكأنها تمثل أغلبية لا تؤمن بالوطن ومصالحه العليا، بل تؤمن بأنّ هذه الطبقة الحاكمة هي الممثل الشرعي الإلهي على الأرض! ما سمح لها أن توزّع المناصب والمصالح على أعضائها بالتراضي كمغانم حرب واستلاب بلاد.
السؤال: ما معايير تحديد الطبقة الحاكمة الحالية في العراق؟ لا توجد هذه المعايير، نظراً إلى قوّة التناقضات التي تحكم الموقف من خلال هيمنة أحزاب وكتل وتيارات دينية ومذهبية وذيلية، ليس لها أيّ منطق سياسي متفق أو مختلف عليه، بل هي أشبه بموجات قوية كاسحة من الولاءات المتخندقة، تنساق معها آلاف مؤلفّة، يصل بعضها إلى ملايين من البشر، وكلّهم يؤيدّون هذا الجناح أو ذاك من رؤوس الطبقة الحاكمة التي تتكلم باسم هذا المرجع أو ذاك، بعيداً عن أيّ رمز وطني أو زعيم سياسي أو قامة نضالية. ووفقًا لبعض ما يروّجه لدى أبواق الطبقة الحاكمة، فهم الذين هيمنوا من خلال الاحتلال الأميركي ووجوده على المناصب العليا كأشخاص، قال عنهم الحاكم الأميركي، بول بريمر، إنّ أميركا جمعتهم من الشوارع، لتجعلهم زعماء من ورق بصفة عملاء لها في حكم العراق، لكنّها لا تزال لا تجد غيرهم، ليكونوا حكّاماً صالحين لبلد مثل العراق.
لا شرعية وطنية للطبقة العراقية الحاكمة، ولا أحقيّة سياسيّة لها منذ أكثر من 18 عاماً
وليس من المعقول عدم نمو طبقة جديدة أو عدّة نخب سياسية من الجيل الجديد، لكنّها مختنقة في مناخ قاتل، ليس باستطاعتها النمو والتقدّم، نظراً إلى هيمنة القوى المسعورة للطبقة الحاكمة، سواء كانوا في السلطة أم بشكل مليشيات تأتمر بأوامر دولة عميقة، تجثو في أعماق الدولة الاسمية أو المعلن عنها. وقد كان هناك حراك سياسي يمثله الناشطون الجدد من التشرينيين الرافضين هذه الطبقة الحاكمة. ولكن سرعان ما قُمعت إرادتهم واضطهدت حركتهم، ولم تسعفهم أيّ ثورة وطنية شاملة في عموم البلاد، فخبا صوتهم ولم تساندهم أيّ قوى وطنية، وصمتت محافظات كاملة، فتشرذمت حركتهم، ولكنهم سجّلوا أروع الصور في المقاومة ضد هذه الطبقة الحاكمة الباغية التي يمتلك زعماؤها السلطة والنفوذ والمليارات، بسبب التحكّم في موارد البلاد واعتمادهم على المرتزقة والمليشيات العميلة لإيران.
تمتلك الطبقة الحاكمة في العراق اليوم السلطة الرسمية. لكن لو نظرنا إلى مشروعيتها لوجدنا أنّها لم تأتِ بأساليب سليمة، تمثل إرادة العراقيين قاطبة، ففي كلّ التجارب السابقة، وجدنا كم كانت هي بكلّ عناصرها نتاج التزويرات والتلاعب، والأهم من ذلك كله فرض إيران إرادتها على تنصيب من تراه يدور في مدارها، ويترجم ما تريده في العراق... وعليه، فهذه الطبقة، بكلّ سطوتها على المؤسسّات في البلاد، لا شرعية وطنية لها أبداً، ولا أحقيّة سياسيّة لها منذ أكثر من 18 عاماً، وهي فاقدة مشروعيتها الوظيفية، كونها لم تقدّم، على مدى السنوات الطوال، أيّ خدمات للبلاد، ولا أيّ رعاية للشعب، كما أنّها متهمة بتبديد الأموال العامة وسرقة موارد العراق... ولم تعترف بخطاياها في الحكم والإدارة، ولم تحاكم الفاسدين أبداً، بل وساهمت في اتخاذ قرارات كارثية، وعرضت أمن البلاد للخطر. ولم نجد أيّ خطوة من خطوات الإصلاح التي تعدّ الشعب بها من دون أيّ تطبيق، وهي مستمرة على نهجها الطائفي، بتوظيفه في الخطاب والممارسة، عبر سياسة إقصاء ألوان الطيف المجتمعي والتمييز والتهميش والمحاصصة والانقسام.
للطبقة الحاكمة في العراق علاماتها الفارقة التي لا نجدها أبداً في أيّ نظم سياسية أخرى في العالم
شكّلت في العراق خمس حكومات منذ صدور دستور كسيح عام 2005، ولم نجد أيّ منجز لتاريخيته وتأثيره في الوضع العراقي، بسبب تفاهة هذه الحكومات إزاء القوى المهيمنة، والانسياق سياسياً واجتماعياً وراء ما تقوله الفتاوى التي تبيح ما تحرمه القوانين المدنية. وعليه، لا نفع في الديمقراطية في مثل هذه الحالة السائدة، وبقاء الطبقة الحاكمة وتبادل الأدوار واستمرار الأسماء نفسها، وكلّها ضعيفة في أدائها، فهل يعقل أن تستمر مثل هذه المسرحيات التي يقوم بأدائها ممثلون فاشلون. إنّه الضحك على الذقون مع تفاقم القمع السياسي وانتفاء العدالة جملة وتفصيلاً، مع عدم ولادة نخب فاعلة تتمتع بمعايير الأداء في الإدارة أو الاقتصاد أو التعليم أو القضاء... إلخ، فالأقلية الحاكمة هي المسيطرة تحت يافطة حزب ديني أو تيار مذهبي أو كتل اتخذت لها مسميات جديدة، وهي أغطية لمحتوى واحد، لا علاقة لها بالعراق أو بمصالح العراق وأهله جميعاً.
للطبقة الحاكمة في العراق علاماتها الفارقة التي لا نجدها أبداً في أيّ نظم سياسية أخرى في العالم، فهي لا تمثّل المجتمع كلّه، وتبدو منفصلة عنه، وهي لا تستطيع أن تقرّر الأجندة السياسية للمجتمع، كونها رهينة عند الإيرانيين! وهي طبقة تستحوذ على الموارد بغياب وسائل الإنتاج، وهي متصارعة مع بعضها، وغير قادرة على أن تحدّد وتؤسّس الأيديولوجية الوطنية المهيمنة من خلال الثقافة والأعراف والتقاليد الوطنية للمجتمع، ولكنها سلكت طريق التمييز الطائفي والهيمنة المذهبية. وهي طبقة متخلفة وعاجزة في القرن الحادي والعشرين، كونها لم تُحسن التقدّم بالبلاد (وهو ما يخالف أفكار ماتي دوغان المعاصرة عن النخب الحاكمة)، بل أبقته في براثن الريعية مع تفاقم الفساد والفاسدين في كلّ الميادين.